باريس - تونس اليوم
تستعد دار أوبرا باريس لبدء نقاش حول النظرة الاستشراقية والكليشيهات في أعمال الباليه الكلاسيكي التي تعود إلى القرن التاسع عشر، وهي عملية دقيقة ما بين ضرورة الحفاظ على التراث وأخذ تطور العقليات في الاعتبار، من دون الوصول إلى «ثقافة الإلغاء»، حسب تقرير لوكالة الصحافة الفرنسية. فبعد بضعة أشهر من بيان غير مسبوق عن التنوع العرقي في دار الأوبرا
أصدره راقصون وموظفون سود ومختلطو الأعراق في المؤسسة، سُلطت الأضواء على مسألة أعمال الباليه التاريخية بعدما صرح المدير العام الجديد للأوبرا ألكسندر نيف في صحيفة «لوموند» في نهاية ديسمبر (كانون الأول) بأن «بعض الأعمال سيختفي بلا شك من السجلّ»، وجاء كلامه مباشرة بعد فقرة تشير إلى أعمال شهيرة مثل «بحيرة البجع» و«كسّارة البندق». وسرعان ما ثارت ثائرة شبكات التواصل الاجتماعي واليمين المتطرف بلسان رئيسة حزب «الجبهة الوطنية» مارين لوبن التي رأت أن «مناهضة العنصرية أصبحت مجنونة».
وسارعت الأوبرا إلى النفي، مشيرة إلى أن «تلاصقاً مؤسفاً» حصل بين كلام المدير العام والفقرة المذكورة.
وقد طال هذا الجدل مسائل أخرى في السنوات السابقة. فقد طرحت صحيفة «نيويورك تايمز» مثلاً سؤالاً عما إذا كان يجوز الاستمرار في عرض لوحات الرسّام الفرنسي بول غوغان لكونه أقام علاقات حميمة مع فتيات صغيرات جداً، كذلك حصل جدل حين تم تعديل عنوان رواية أغاتا كريستي الشهيرة «عشرة زنوج صغار» بالفرنسية إلى «كانوا عشرة»، أما شبكة «إتش بي أو ماكس» فسحبت مؤقتاً فيلم «ذهب مع الريح» لإضافة شرح لسياقه، تأثراً بحركة «حياة السود مهمة».
وفي وقت اشتهرت دور الباليه الأكاديمية في القرن التاسع عشر بتصميمها الرائع للرقصات، فهي معروفة أيضاً بعدم دقتها في تمثيل الثقافات غير الأوروبية. وشرحت مؤرخة الرقص سيلفي جاك ميوش لوكالة الصحافة الفرنسية أن «المسألة تتعلق باهتمام الغرب بالثقافات الغريبة عنه»، وهو أمر كان رائجاً جداً في القرن التاسع عشر في أنواع الفنون كافة، مستشهدة بلوحات الرسّام الفرنسي أوجين ديلاكروا كمثال.
وفي السنوات الخمس الأخيرة، تخلت دار الأوبرا عما يُعرف بالـ«بلاكفيس»، أي تلوين وجوه ممثلين أو راقصين بيض باللون الأسود لأداء دور شخصيات من ذوي البشرة الداكنة.
أما تصفيف الشعر المجعد وحصول الراقصين والراقصات السود على جوارب طويلة وأحذية باليه تناسب لون بشرتهم، وكل ما يتعلق بالتنوع العرقي في المؤسسة، فمسائل يمكن العمل على معالجتها مع الوقت، لكنّ مسألة الأعمال التاريخية تبدو أكثر تعقيداً. في «لا بايادير» (راقصة المعبد) يظهر الزاهدون الهندوس على أنهم خانعون بينما هم موضع احترام في الهند، وفي «ريموندا»، يظهر دور زعيم السراسنة (الاسم الذي كان يطلق على العرب) على أنها شخصية سوداوية.
ومن المتوقع أن يقدّم المؤرخ باب ندياي والأمينة العامة لهيئة «المدافع عن الحقوق» المستقلة كونستانس ريفيير قريباً إلى دار الأوبرا تقريراً يتناول كل هذه المواضيع بما فيها الصور النمطية.
وأوضحت سيلفي جاك ميوش أن أعمال الباليه التاريخية أعيد تصميمها مرات عدة عبر العالم (في أوبرا باريس، معظمها للراقص السوفياتي الشهير رودولف نورييف)، وذلك يعود «إلى أن الأجساد تغيرت وكذلك التقنية».
ولكن ماذا عن العقليات؟ أشارت ميوش إلى أن هذه الأعمال «أثر لماض موجود».
ورأت أن الأعمال الكلاسيكية يمكن أن تتعايش مع تلك المستوحاة منها التي تتناول عالم اليوم، معطية أمثلة على ذلك، منها «جيزيل» للبريطاني أكرم خان و«كوبيليا» لجان كريستوف مايو (أيار) أو «بحيرة البجع» لماثيو بورن التي تضم راقصين ذكوراً حصراً.
ويؤكد النجم السابق في أوبرا باريس قادر بلعربي وهو حالياً مدير باليه الكابيتول في مدينة تولوز أن «أي عمل يمكن أن يعاد صوغه في سياق مختلف».
وبعدما أعاد النظر في عدد من الأعمال، بينها «لو كورسير» أو «القرصان» (يعود إلى عام 1856 في باريس)، دعا بلعربي إلى «إعادة قراءة متعمقة» للأعمال الكلاسيكية، من دون «فقدان الذاكرة». وأضاف: «لا يمكننا إدانة ماضٍ، ولكن يجب ألا نبقى متعلقين بشخصيات أقرب إلى كليشيهات عفا عليها الزمن». في باليه «لا بايادير» التي كان من المفترض أن يقدمها «باليه الكابيتول» عام 2020، تقرر مثلاً ألا يكون ماكياج «الهنود» باللون الداكن، على ما أوضح بلعربي الذي أضاف: «بالنسبة لباليه (ليه ميراج)، سنناقش إعادة النظر في الجزء المتعلق بـ(الزنوج)». وشدد بلعربي على ضرورة «الانتباه إلى حساسيات معينة، ولكن من دون الوقوع في الصوابية السياسية».
وفي الولايات المتحدة، قال الراقص الأميركي الصيني فيل تشان الذي أسس عام 2017 جمعية تحارب الكليشيهات الآسيوية في أعمال الباليه الكلاسيكي، إن «الباليه يتغير طوال الوقت، وليس مثل لوحة الموناليزا». وتابع موضحاً: «بات الهنود اليوم جيراننا، والسود أقرباءنا، في حين أن الصينيين زملاؤنا. لم يعد بإمكاننا وضع أوروبا في المركز، بينما ترقص الدول الأخرى في الأطراف».
وقد أعاد صوغ قصة باليه «القرصان» مع المحافظة على تصميم الرقص، فلم يعد السياق عبارة عن حريم وقراصنة وباشا.
وسأل الراقص: «ما هو الحريم اليوم؟ مسابقة ملكة الجمال! أما الباشا هو ذلك الرجل الذي يعتقد أنه، إذا كان مشهوراً جداً، يمكنه ملامسة النساء من دون إذنهن... هل يذكرنا ذلك بشخص ما؟».
قد يهمك ايضا
مومياوات وتوابيت وأوانٍ فخارية وهياكل عظمية فى اكتشاف سقارة الجديد
المتاحف الأميركية تقلل عدد الموظفين وتواصل اقتناء القطع الفنية