واشنطن -تونس اليوم
ذكر مارك توين ذات مرة نكتة تقول إن مسرحيات شكسبير مثقلة بالاقتباسات. ربما حتى في عصرها كان فيها القليل. كان بإمكان الشاعر الكبير، العارف بكل شيء عن الحب والسرقة، أن ينهب السطر المناسب مثلما ينهب الحبكة الغريبة. لكنه مثل بوب ديلان صار بمرور الوقت المسروق منه أكثر منه السارق.
قد يكون وليم بتلر ييتس الثاني بعد شكسبير في بانثيون شعراء الإنجليزية المقتبسين: وقد كتب ربما نفس العدد من الأسطر القابلة للاقتباس. جعل هذا بعض النقاد في حالة يقظة، كما لو أن الأسطر صممت لمدرسة المقتبسين المشغوفين، الأرواح الحساسة الرفيعة الذائقة. لقد لاحظ أكثر من محلل حاد الذهن أن ثمة ما يبرر شكوك المرء تجاه الشعر «القابل للاقتباس».
يشار غالباً إلى قصيدة ييتس «المجيء الثاني» بوصفها اختباراً - فهي مليئة بالأسطر المدهشة دون أن تكون واضحة بالضرورة، لكن تشعرنا بمضمون عميق بما يكفي لتوفير العديد من عناوين الكتب: «الدائرة الحلزونية المتزايدة»؛ «مجرد فوضى»؛ «طقس البراءة»؛ «تتساقط الأشياء»؛ «أي وحش خشن؟»؛ «يزحف باتجاه بيت لحم». نسبة ليست قليلة من الصدف لا سيما حين تضيف الأسطر ذات الطابع الشعاري مثل «الأفضل بينهم يفتقر إلى الاقتناع، بينما الأسوأ مملوء بالعاطفة الجياشة».
لم كل هذه الشكوك؟ أليس من المفترض في الشعر الجيد أن يكون قابلاً للحفظ؟ قد تتولد الشكوك لأن العديد من السياسيين والشخصيات العامة ينهون خطبهم الرديئة بسطر شعري مسروق حول عبارة «الجمال الرهيب» منتزعة من سياقها - كثير من مدوري سطر مثل «كن صادقاً مع نفسك» يتمكنون من نسيان أن قائله هو الأحمق كلوديوس (الوزير في مسرحية «هاملت»).
في كتابه «ييتس الآن»، يسعى جوزيف هاسيت باستمرار إلى استعادة السياق الشعري والشخصي للعديد من الاقتباسات الشهيرة. غالباً ما يربط مقولة لييتس بمقولات لشعراء حداثيين آخرين (هيني، ريلكه، إليوت)، أو برسوم توضيحية جميلة في الكتب أو بلوحات ذات دلالة. وحين يقتبس فإن اقتباساته طويلة، تصل أحياناً إلى مقاطع كاملة (يذكرنا أن كلمة «ستانزا»، أي مقطع، كانت كلمة إيطالية تعني «غرفة») أو قصائد قصيرة كاملة. النتيجة لهذا هي واحد من أجمل وأمتع الكتب حول ييتس التي تستدعي مهارات مصمم موهوب. وهو من تأليف ناقد حقيقي، فقد سبق للدكتور هاسيت أن أصدر دراستين توضيحيتين، «ييتس وشعرية الكراهية» و«ييتس وربات الشعر».
هنا نرى الباحث في مزاج أكثر هدوءاً واستمتاعاً حسياً، يتذوق إيقاعات وصوراً، ويلاحظ مع ذلك أن الناس يلتفتون إلى أسطر كثيراً ما تقتبس لأنها، بما فيها من انفتاح، تقول لنا وبالنيابة عنا، لا سيما في أزمنة المعاناة. يجدها د. هاسيت منفتحة على العديد من الدلالات، نعم، لكنه يجدها أيضاً ممتلئة بـ«التكثيف الشعري». يستوحي قوة تنبؤية في «المجيء الثاني» ليس لأنها إحدى القصائد القليلة في عصرها التي تتحدث بثقة عن المستقبل، وإنما أيضاً لأننا ذلك المستقبل الذي تتحدث عنه. يُنظر إلى تلك القصيدة عادة، وهي التي كتبت عام 1919 من حيث هي ردة فعل قلقة تجاه قيام البلشفية (ولذا أمكن لجوان ديديون أن تقرأها على أنها نبوءة بالثورات «الفوضوية، التائهة» في ستينيات القرن الماضي) - لكن السياق الأقرب كانت جائحة الإنفلونزا الإسبانية، المرض الذي قتل من الناس أكثر مما قتلت الحرب العالمية الأولى، التي هددت حياة زوجة الشاعر الجديدة وكذلك حياة والده. أي وحش قاس كان ذلك فعلاً؟
لقد استجلى ييتس معالم عصره بعمق جعل شكل المستقبل واضحاً إلى حد ما. أدرك أن أولئك الذين لا يقدمون سوى أدوية وهمية لعصرهم ينتهون بسرعة (مثل أغنية قديمة)، ولكن أولئك الذين يعارضون روح عصرهم يتمكنون غالباً من الإمساك بطاقاته الفاعلة ويعرفونه من الداخل. بمعرفة ذلك القدر قد يتخيلون عالماً مستقبلياً يصحو فيه الحالم (تبدأ المسؤولية في الأحلام).
من هنا تأتي الدقة في عنوان كتاب «ييتس الآن». قد يكون ييتس شاعراً لكل الأزمنة، لكن الحاجة تشتد لحكمته في زمننا. سبق لإليوت أن قال إنه (أي ييتس) كان من أولئك الذين امتلكوا معرفة عميقة بالعصر الحديث يصعب فهمه بدونها. بعد أن تحول مبكراً إلى شاعر كبير، نجح ييتس في البقاء معاصراً إلى الأبد، إلى الحد الذي يجعل من الصعب لنا أن نرى مقدار ما ابتكره من تفكيرنا. ومن هنا تأتي ردة فعلنا الغامضة بشكل غريب تجاه قابليته للاقتباس. بعض القراء «المقاومين» قد يفضلون لو شعروا بمدينية أقل.
العنوان الجانبي لكتاب د. هاسيت هو «صداه في الحياة». فمع أنه أكثر مهارة ورهافة من تأكيد كهذا للذات، فإن كتابه قد يبدو لبعض القراء بوصفه من كتب تطوير الذات، بفصول تحمل عناوين مثل «يعمل»، «يحب»، «يتزوج»، «يتعلم»، «يشيخ»، «يواجه الموت»، «الكلمات الأخيرة». ليست هذه سلسلة مأخوذة من عالم الأداء العملي لأناس مثل ساميول سمايلز أو ديل كارنيغي. لكنها توحي بلطف، كما فعل ألان دي بوتون مع بروست، أن أعمال فنان حداثي قد تعلمنا كيف نحيا حياة أكثر اكتمالاً، حياة مختبرة أكثر، وأكثر إبداعاً.
بعض النقاد المعاصرين، مثل بيث بلَم، زأروا بغضب إزاء نسبة هدف كذلك للفنانين الذين آمن أولئك النقاد أن أعمالهم يجب أن تكون لا أن تعني. لكن الحقيقة تبقى أن ييتس اعتبر حياته تجربة في العيش، وأنها بذلك جديرة بالتحليل والتسجيل - ولذا رأى بالتأكيد بعض القيم المثالية في تجاربه. لم يحول كل تلك القيمة إلى نظام صارم. اقترب من ذلك كثيراً في (كتابه) «رؤية» ولكنه في النهاية رفض الفن الذي تحل فيه الإرادة محل المخيلة. ومع ذلك فقد آمن بأن بإمكان الفنان أن يعلم الناس كيف يعيدون اختراع الذات - مثلما فعل دانتي وكيتس - وفي تلك العملية تقبل ذاته الخفية أو ظله المصاحب، كما فعلت أرواح كثيرة شجاعة، من هومر إلى يونغ.
أحد مباهج هذا الكتاب هو رفضه للتسلسل الزمني. قد ينتهي في «كلمات أخيرة»، لكنه يفضل أن يصنع عناقيد من الاقتباسات حول موضوعات محددة (دورات، أماكن، أصدقاء، حرب)، مستلة من ييتس المبكر أو المتأخر، ربما ليثبت الاتساق لدى رجل آمن مع ذلك بقوة التناقض. جزء من سحر الكتاب هو موهبة هاسيت في صنع المقارنات القصيرة، الحادة، والمدهشة - مع جويس وبيكيت - التي تترك أثرها في مضاعفة أسطر ييتس الشعرية؛ لكنها تجتذبنا أيضاً بالطرق التي تبدو فيها اقتباساته الرشيقة وهي تشجع القارئ على ربط السطر من الشعر بسطر يتذكره من النثر. «بهجة الحب تدفع حبه بعيداً/ فرشاة الرسام تستهلك أحلامه» قد يشير إلى الطرق التي تستنفد فيها كل حركة فنية كبرى دوافعَها الأولى؛ لكنه يذكر البعض أيضاً بتلك الرسالة التي قال فيها شاعر متعب «رسائل حبنا تنهك حبنا». إن ييتس في نهاية المطاف هو الذي قال له أوسكار وايلد إنه رأى من الرجال الذين دمرتهم زوجة أو عشيقة عدداً أقل من العدد الذي أنهكه الرد بصورة فعالة على الرسائل في ستة أشهر.
لكم كان ييتس محظوظاً أنه لم يعش في عصر التوفر البائس على الإنترنت. لكن كم كان ييتس محظوظاً أيضاً أن وجد مفسراً هادئاً، عارفاً ورقيقاً مثل جوزيف هاسيت.
قد يهمك أيضا:
وعاء نادر للبيع بمئات آلاف الدولارات بعد شرائه بـ35 دولارا
13 حقيقة لا يعرفها كثيرون عن صلاة العشاء