لندن ـ سليم كرم
نشر موقع الديلي ميل تقريرا عن نظم "الأتمتة" وتقنيات الذكاء الاصطناعي وحول تساؤل الكثير من الناس وخوفهم بشان مستقبل العمل، فيتساءل التقرير ما هو مصير ملايين العمال البشريين وفرص عملهم، وما الذي سيفعله الناس، وكيف سيوفرون عمل لأنفسهم وأسرهم، وما هي التغييرات التي قد تحدث لكي يتكيف المجتمع على هذا النظام وعلى التطور في برامج الذكاء الاصطناعي؟
إلا أن كثير من الاقتصاديين يؤكدون أنه لا داعي للقلق من حركة الأتمتة وتقدم الذكاء الاصطناعي، حيث يقول هؤلاء الاقتصاديون "عندما تدمر التكنولوجيا الوظائف، فإن الناس سوف يجدون وظائف أخرى"، وكما قال أحد الاقتصاديين: "منذ فجر العصر الصناعي، كان الخوف المتكرر هو أن التغير التكنولوجي سيؤدي إلى البطالة الجماعية، وتوقع علماء الاقتصاد الكلاسيكي الجديد أن هذا لن يحدث، لأن الناس سوف تجد وظائف أخرى، وإن كان ذلك بعد فترة طويلة من التكيف المؤلم، بشكل عام، ثبت أن هذا التنبؤ صحيحا، كان إلغاء التشغيل الآلي لنطاق واسع من الوظائف حول العالم مجرد تهديد محتمل، لكنه اليوم حقيقة معاشة، ومع بلوغ تعقيد أنظمة الذكاء الاصطناعي درجة غير مسبوقة، أصبح تعرض منظومة الوظائف الحالية لموجة مماثلة أمر شبه حتمي، ربما تكون هذه الصورة مثيرة للقلق، لكن ما تجاهلناه هو انه ستظهر كثير من الوظائف الجديدة أيضا، وظائف تختلف كلية عما نألفها اليوم".
وأشار التقرير إلى رصد ظهور فئات كاملة من الوظائف البشرية الجديدة والفريدة، لن تحل هذه المهام محل الوظائف القديمة، إنها وظائف غير مألوفة، تتطلب مهارات وتدريبات لم يسبق لها مثيل، ولمزيد من الدقة، نقول إن بحثنا يكشف عن ثلاث فئات جديدة من الوظائف التقنية والإدارية التي يتطلبها الذكاء الاصطناعي، أطلقنا عليها فئة المدربين، وفئة الشارحين، وفئة الصائنين، يؤدي البشر في هذه الوظائف دورا تكميليا للمهام التي تتولاها التقنية المعرفية، لضمان فعالية وموثوقية عمل الآلات، وهو ما يتطلب اتصافها بالوضوح والقابلية للمراجعة، ستحتاج أولى فئات الوظائف الجديدة من العمال البشريين إلى تعليم أنظمة الذكاء الاصطناعي طريقة الأداء المثلى، وهي فئة تتمتع بسرعة في الانتشار، بالفعل، يساعد المدربون معالجات اللغات الطبيعية ونظم الترجمة على تقليل نسبة الأخطاء، وعلى الجانب الآخر، يعلم المدربون خوارزميات الذكاء الاصطناعي كيفية محاكاة السلوكيات البشرية، على سبيل المثال، تحتاج روبوتات الدردشة المخصصة لخدمة العملاء إلى التدرب، لإدراك مدى تعقيد ورهافة التواصل الإنساني، تحاول شركة "ياهو" تعليم نظام معالجة اللغة الخاص بها، أن البشر لا يعنون بالضرورة ما يقولونه حرفيا، وحتى الآن، طور مهندسو ياهو خوارزمية يمكنها تمييز السخرية على منصات التواصل الاجتماعي والمواقع بدقة تصل إلى 80% على أقل تقدير.
تخيل الآن وظيفة "مدرب"، فيها يدرب الأفراد نظام الذكاء الاصطناعي على إظهار التعاطف، ونجد أن شركة "كيموكو" الناشئة، المنبثقة عن معمل الوسائط في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، والتي تتخذ نيويورك مقرا لها، قد نجحت في تطوير نظام لتعلم الآلة، يمكنه مساعدة المساعدين الرقميين، مثل سيري الخاصة بشركة "آبل"، و"أليكسا" الخاصة بشركة "أمازون"، على التجاوب مع أسئلة المستخدمين بتعاطف وعمق، في الوقت الحالي، يدرب بعض الأشخاص خوارزمية كوكو، التي تطورها شركة كيموكو، على التجاوب بمزيد من التعاطف مع الأشخاص الذين فقدوا -على سبيل المثال- أمتعتهم، أو اشتروا منتجا معيبا، أو عجزت محاولاتهم المتكررة عن إصلاح وصلة التليفزيون مما حرمهم مشاهدة برامجهم المفضلة، يهدف ذلك إلى تمكين النظام من التحدث إلى المستخدمين خلال الأزمة أو المواقف العصيبة بقدر مناسب من الاستيعاب والتعاطف، وربما شيء من الحس الفكاهي أيضا، فمتى تجاوبت كوكو بصورة غير ملائمة، يأتي مدرب بشري ليساعدها على تقويم أفعالها، وبمرور الوقت، تزداد قدرة خوارزمية تعلم الآلة على تحديد رد الفعل الأمثل.
دون مدرب للتعاطف، قد تتجاوب "أليكسا" مع مخاوف المستخدمين بعبارات مكررة ومبتذلة مثل: "يؤسفني سماع ذلك"، أو "كثيرا ما يعيننا التحدث إلى صديق على تخطي الأزمة"، لكن مع التدريب المناسب، تصبح أليكسا أكثر فائدة بكثير، فيما يلي نقل حرفي لردود أليكسا -مستعينة بخوارزمية كوكو- على شخص يبدي قلقه من الرسوب في اختبار دراسي قريب: "الاختبارات مجهدة للأعصاب حقا، لكن قليل من القلق قد يساعد على النجاح، إنه يشحذ أذهاننا، هكذا يستعد جسدك لخوض المعركة، إنه -في الواقع- أمر جيد، يمكنك اعتبار أعصابك بمثابة سلاحك السري، أجل، أدرك أن الكلام أسهل من الفعل، لكني أتوقع منك أداء يفوق ما تتوقعه من نفسك الآن".
تشكل ثاني فئات الوظائف الجديدة جسرا فوق الفجوة الفاصلة بين خبراء التقنية وكبار رجال الأعمال، سيسهم الشارحون في إكساب الأمر مزيدا من الوضوح، وهو ما لم يكن مهما قط بقدر أهميته اليوم، مع ازدياد أنظمة الذكاء الاصطناعي غموضا، كثير من المديرين التنفيذيين لا يستسيغون الطبيعة المعقدة لخوارزميات تعلم الآلة، الشبيهة بالصندوق الأسود، خاصة عندما يرجح النظام اتخاذ أفعال تتعارض مع بديهيات الحصافة التقليدية، بدأت الحكومات بالفعل في تدارس اللوائح المنظمة لهذا المجال، فعلى سبيل المثال، أصدر الاتحاد الأوروبي لائحة عامة جديدة لحماية البيانات، من المقرر إنفاذها عام 2018، ستضمن هذه اللائحة "الحق في التفسير"، وهو ما يتيح للمستهلكين مساءلة ومعارضة اتخاذ أي قرار يمسهم، بناء على أساس خوارزمي بحت.
ستحتاج الشركات التي تتبنى أنظمة ذكاء اصطناعي متطورة، إلى كادر من الموظفين القادرين على شرح طريقة عمل الخوارزميات المعقدة، للخبراء من غير ذوي المعرفة التقنية، وسيحرص خبير الأدلة الجنائية الخوارزمية -مثلا- على تحمل كل خوارزمية مسؤولية قراراتها كاملة، فحينما يرتكب النظام خطئا، أو تنتج قراراته عواقبا سلبية غير مقصودة، يأتي دور خبير الأدلة الجنائية المنوط به "تشريح" الحادثة، لفهم أسباب هذا السلوك، بما يتيح تقويمه، وبينما يسهل شرح طريقة عمل بعض أنواع الخوارزميات، مثل أشجار القرار، بصورة مباشرة وبسيطة، هناك أنواع أخرى، مثل روبوتات الإنترنت القائمة على تقنية تعلم الآلة، تتصف بالتعقيد، لذلك، يحتاج خبير الأدلة الجنائية إلى اجتياز تدريبات واكتساب مهارات لإجراء تشريح تفصيلي وشرح نتائجه.
هنا، يمكن تحقيق استفادة هائلة من التقنيات المشابهة لـ"التأويلات المحلية المتجاوزة للنظام والقابلة للتفسير" (LIME)، التي تشرح المنطقية والموثوقية الضمنية لتنبؤات الآلة، لا تهتم (LIME) بالخوارزمية المستخدمة، في الواقع، إنها لا تحتاج إلى معرفة أي شيء عن طريقة العمل والتفاصيل الداخلية، فلتشريح أي نتيجة، تجري هذه التقنية تغييرات طفيفة في المدخلات، ثم ترقب تأثير ذلك على القرارات، بفضل هذه المعلومات، يتمكن خبير الأدلة الجنائية الخوارزمية من تحديد البيانات المسؤولة عن نتيجة معينة.
إذن، على سبيل المثال، لو حدد نظام توظيف احترافي أفضل المتقدمين لشغل وظيفة في مجال البحث والتطوير، يمكن للخبير المستعين بتقنية (LIME)، تحديد المتغيرات التي قادت إلى هذه النتيجة (مثل التعليم والخبرة العميقة في مجال محدد)، وكذلك المثالب (مثل انعدام أي خبرة سابقة في العمل الجماعي)، باستخدام هذه التقنيات، يستطيع خبير الأدلة الجنائية شرح أسباب توظيف أو ترقية شخص ما، وفي مواقف أخرى، يمكن للخبير المساهمة في إزالة الغموض المحيط بتوقف عملية صناعية يقودها الذكاء الاصطناعي، أو استهداف حملة تسويقية لمجموعة محدودة من المستهلكين.
أما الفئة الأخيرة من الوظائف التي حددها بحثنا، فمهمتها ضمان استمرار أنظمة الذكاء الاصطناعي في العمل حسبما أراد مصمموها، والحرص على معالجة العواقب غير المقصودة بالسرعة المناسبة، لقد تبين لنا من البحث أن نسبة الشركات التي تتمتع بدرجة عالية من الثقة في انضباط أنظمة الذكاء الاصطناعي الخاصة بها وقابليتها للتدقيق أقل من الثلث، والنسبة التي تعتبرها أنظمة آمنة لم تصل حتى إلى النصف، من الواضح أن هذه الإحصائيات تدل على مشاكل أساسية يتوجب حلها من أجل استمرار العمل بتقنيات الذكاء الاصطناعي، وهنا سيلعب الصائنون دورا حاسما.
ستكون إدارة الانضباط الأخلاقي أحد أهم الوظائف، وسيؤدي الأفراد القائمون على هذه المهمة دورا أشبه بكلب حراسة وأمين مظالم، لحفظ القيم والأخلاقيات الإنسانية، والتدخل في حال أظهر نظام الذكاء الاصطناعي المسؤول عن القروض، مثلا، تمييزا ضد أهل مهنة معينة أو سكان بقعة جغرافية محددة، ربما تكون بعض التحيزات الأخرى أكثر مكرا، مثل اقتصار نتائج خوارزمية محرك بحث على صور النساء البيض، عند إدخال كلمة البحث: "جدات طيبات"، يستطيع مدير الانضباط الأخلاقي العمل مع خبير الأدلة الجنائية الخوارزمية للكشف عن الأسباب الخفية لظهور نتائج معينة، ومن ثم إجراء الإصلاحات المناسبة.
في المستقبل، ربما يكتسب الذكاء الاصطناعي قدرا أكبر من الحكم الذاتي، تمكن مارك ريدل وبرينت هاريسون، الباحثان بكلية الحوسبة التفاعلية بمعهد جورجيا التقني، من تطوير نموذج أولي لنظام ذكاء اصطناعي يدعى كيخوته، يمكنه إدراك الأخلاقيات عن طريق قراءة قصص بسيطة، يستطيع هذا النظام -وفقا لريدل وهاريسون- إجراء هندسة عكسية للقيم الإنسانية، عبر قصص عن تفاعل البشر فيما بينهم، على سبيل المثال، تعلم كيخوته أن السرقة فعل قبيح، وأن السعي إلى الفعالية لا بأس به طالما لم يتعارض مع اعتبارات هامة أخرى، لكن حتى مع توفر مثل هذه الابتكارات، سيلعب مديرو الانضباط الأخلاقي دورا خطيرا في المراقبة والمساهمة في كفالة التشغيل الملائم للأنظمة المتقدمة.
إن فئات الوظائف المذكورة هنا غير مسبوقة، وستظهر الحاجة إليها على نطاق واسع في المجالات الصناعية المختلفة، سينتج هذا التحول ضغطا كبيرا على أقسام التدريب والتطوير في المؤسسات، كما قد تدفعنا إلى إعادة التفكير في كثير من الافتراضات الخاصة بالمتطلبات التعليمية التقليدية للوظائف الاحترافية.
ربما لا يحتاج مدربو التعاطف، مثلا، إلى شهادة جامعية، فمن الممكن تعليم المهارات اللازمة، لأصحاب الشهادة الثانوية، ممن يبدون التعاطف بالفطرة (وهي صفة يمكن قياسها)، خلال برنامج تدريبي منزلي، في الواقع، قد يؤدي تزايد عدد القائمين بهذه المهام إلى ظهور قوى عاملة غير موظفة، تحل محل العمالة الموظفة في التصنيع والمجالات الأخرى، لكن يظل مكان وكيفية تدريبها سؤالا بلا إجابة، ويجب البدء في كتابة هذه الإجابة، في رأينا، داخل قسم تدريب وتطوير تابع لإحدى المنظمات.
على الجانب الآخر، قد يتطلب عدد من الوظائف الجديدة -مثل مدير الانضباط الأخلاقي- شهادات رفيعة، ومجموعة من المهارات عالية التخصص، لذا، مثلما يتوجب على المنظمات بحث الحاجة إلى تدريب جزء من القوى العاملة للقيام بالمهام غير الوظيفية الناشئة، يتوجب عليها كذلك إعادة هيكلة أقسام الموارد البشرية، بهدف تعزيز قدرتها على جذب وتدريب واستبقاء المتخصصين من ذوي التعليم الرفيع، الذين سيزداد معدل الطلب على مواهبهم بصورة جنونية، وكما هو الأمر مع كثير من التحولات التقنية، تبقى التحديات بشرية أكثر منها تقنية.