رام الله ـ وفا
لا يخلو بيت فلسطيني من المطرزات، واللوحات التراثية الفنية، خاصة بيوت أبناء وأحفاد نكبة 1948، وكأن الجميع اتفق دون أن يجمعهم مكان وزمان واحد، على بقاء الأمل بالعودة مُتقداً وحيا، فكان الحنين إلى البلاد المسروقة وثيقةً في القلب، يُعاهدها الفلسطيني أن لا ينسى.
ثلاث شقيقات، غدير وليندا وعبير حمودة، تربين على الرسم والتطريز والنقش والابداع التراثي الفلسطيني، في بيتونيا القريبة من رام الله حيث بيت طفولتهن، تعلمن من الجارات في جلساتهن الصباحية فنون التطريز، عبير وليندا اكتفين بالتطريز على القماش، وغدير اهتمت ايضا بالرسم وتعلم الخطوط والنقش على الزجاج والخشب، وتحويل الكرتون وأغصان الشجر إلى أشكال وتحف فنية.
تستعيد غدير حمودة (38 عاما)، ما تبقى من أصل بلدتها 'لفتا' المهجرة، وتبدأ حلمها بالرجوع ولو رسماً، فتحول بيتها في بلدة كفر عقب شمالي القدس، إلى معرضٍ من اللوحات والرسومات والقطع المطرزة من وسائد وشراشف الطاولة، وألواح زجاج مُلونة ومُزخرفة بالآيات القرآنية والعبارات الدينية، وعبارات حُب الأم والوطن.
تقول غدير، زرت لفتا مرة واحدة في عام 2008، وقفت طويلاً على مدخلها، متأملة الطريق إليها وبقايا البيوت والطُرق الضيقة، سرحت فيها، وتساءلت: أيٌ من هذه البقايا بقية بيت جدي، تتابع غدير، كان جدي يقول: يا بنات لو رأيتن بيوتنا كيف كانت متلاصقة مثل قلوبنا، وعيون المياه كثيرة في لفتا، وزيتونها عميق الجذور، صعب الخلع، والصبار فيها في كل مكان. هذا ما اتذكره من جدي في وصفه للفتا، وأغار جداً من شجرة الزيتون، من كل لوحة أبدع فيها في رسم هذه الشجرة، فأشعر أنها أجمل من كل ما سبقها من رسومات.
لا تنتهي غدير عن الحديث عن لفتا، إلا لتنتقل للحديث القدس، بمعالمها الدينية وأزقتها وقداستها، فتقول: القدس بما تحويها من تاريخ وعصور وحضور ومبانٍ تراثية وطبيعة جغرافية هي مصدر إلهام لكل فنان في العالم، مصدر الهام للأغنيات والروايات واللوحات، وتُشفي نفسيا عند النظر إليها، وقفت بباب العامود، دققت في أدراجه وحجارته ورسمته في مخيلتي، وطوال طريق العودة من زيارتي للقدس كُنت أؤلف اللوحة في خيالي.
لا تكتفي غدير بالصور التراثية والبيوت والزيتون، فترسم ياسر عرفات، وتقول: ليس لدي أي توجه سياسي، لكن شخصية ياسر عرفات النضالية وتاريخه كرمز فلسطيني وعربي وثائر تفرض على الفنان أن يُلم بتفاصيلها ويحولها للوحة شامخة.
وتضيف، كان لا بد من مصدر رزق في حالتنا، فأبي لم يعد يقوَى على العمل بعد مرضه، فقررنا أن نحول حياتنا الى أعمال يدوية تجلب لنا المال، وتساعدنا على تدبر شؤوننا.
وحول التسويق تقول غدير: لم يكن لدينا في بادئ الأمر الامكانية لاستئجار محل في وسط رام الله لعرض منتوجاتنا، بسبب الغلاء الكبير للأجور، فكان معظم اهتمامنا يتركز على المعارض الشعبية والفنية لعرض منتوجاتنا، وكان أولها معرض الاخوات الثلاث في العام 2012 والذي كان بدعم من جمعية لفتا، ومعرض جاليري بوينت ارت، في رام الله، ومعرض 'أنت فلسطيني' في شارع ركب برام الله، وآخرها معرض بمناسبة يوم المرأة في أريحا، والآن نعمل من منازلنا، على طريقة التوصية.
أما عبير حموده، 36عاما، وليندا حموده، 34عاما، فيعلمن بالتطريز بكافة أشكاله، ويشاركن غدير الأفكار والبيع، وتعمل عبير على تفصيل ملابس الأطفال والمعاطف الشتوية، وتقول أنها منذ كانت صغيرة وهي مهتمة بتفصيل الملابس وما يحتاجه الطفل من غطاء شتوي لجسمه كالكفوف، وغطاء الأذن، وقبعات الصوف، واكسسوارات الصبايا كالأساور والخلاخل والأطواق والبكل، وشالات الصوف، وتطريز الرسومات على براويز زجاجية وخشبية، خاصة فيما يتعلق بالبحور والأشجار والمناظر الطبيعية الخلابة.
وتهتم ليندا، بتطريز الرسومات من ورد وماء ومقولات على القطع القماشية، وعمل مسابح الخرز، صناديق للمجوهرات، علب محارم، معلقات مطرزة، علب حلوى، ساعات مطرزة، مفارش طاولات، ميداليات الكريستال، وتستخدم في معظمها ألوان العلم الفلسطيني، وأشكال تمثل خارطة فلسطين ومفتاح العودة.
لا يموت وطن يرسمه أبناؤه بأيديهم، يحمونه بالإبرة والخيط والقلم والفكرة، بحاراته وأزقته الضيقة وعيون الماء أطراف بلداته، يرسمون عنبه ولوزه وتينه وزيتونه ومواسمه وحجارة بيوته، يطرزون ملابسه التراثية والعرس الفلسطيني وعاداته وتقاليده. بأيديهم وطن يبقى.