كشفت عملية الانتقال السياسي في دول الربيع العربي أزمتي الهوية والأيديولوجيا، وانتشرت مفاهيم خاطئة تداولها المثقفون والنخب والمتخصصون عن مخاوف بشأن "تهديد" المشروع الإسلامي للديموقرطية، كما طرحت تساؤلات عن مستقبل الديموقراطية في تونس ومصر وليبيا في ظل هذه الأزمات. مستقبل الديموقراطية في دول الربيع العربي في ظل هذه الأزمات كان محور ندوة عقدت مساء الخميس في العاصمة الأميركية واشنطن، وحضرها باحثان في مشروع الديموقراطية بمعهد دراسات الشرق الأوسط. وكشف الباحثان خلال الندوة عن نتائج دراسة قام بها المعهد واستندت على نتائج استطلاعات لرأي 1201 تونسي و4080 مصري وعدد من الليبيين لم يتم حصرهم بعد. وأوضحت الباحثة في المشروع إلين لاست أن "أهمية المشروع تكمن في التنبؤ بمستقبل الديموقراطية ليس في البلدان الثلاثة فحسب، بل في أي دولة أخرى قد يطالها التغيير مثل سورية والأردن". واعتبرت أستاذة العلوم السياسية بجامعة "يال" الأميركية أن الأزمة السياسية في مصر والانقسام حول النظام الحالي يأتي في إطار الصراع الأيدولوجي بين الإسلام والعلمانية، أما في ليبيا ففقد عزز الصراع على الهوية التناحر القبلي وتحقيق مكاسب الفئوية. "الإسلاميون ليسوا عقبة" وفي محاولة من القائمين على المشروع للتحقق من بعض الفرضيات المطروحة عن ثورات الربيع العربي ومن بينها دور الدين في الحياة السياسية، كشفت الدراسة أن المشروع الإسلامي "ليس عقبة في تحقيق الديموقراطية رغم الصعوبات الاقتصادية والانتقادات" التي قال إنها اعتمدت على معطيات ومطالب غير واقعية. وشرح الباحث جاكوب ويتشمان أن الباحثين توجهوا بعدة أسئلة لفئات عمرية مختلفة كان من بينها: ما هي عدد المرات التي تتردد فيها على المسجد؟ وهل تغلب هويتك الدينية على الوطنية أم العكس؟ وهل ترى أهمية في تولي القادة الدينيين دور في تشكيل السياسات الحكومية؟ وبينت الدراسة أن الشعوب الثلاثة تتبنى اتجاهات دينية معتدلة بالنسبة لدور الدين في الحياة السياسية. ورغم اهتمامهم بشؤونهم الدينية وممارسة شعائرهم، فقد أجاب بنعم 26 في المئة من التونسيين و28 في المئة من المصريين فقط على سؤال "هل توافق على أن يلعب الدين دورا في الحياة السياسية"؟ كما اتضح أن القاعدة الراديكالية من الإسلاميين التي تعتنق قيما دينية خالصة لا تشكل نسبة كبيرة في هذه البلدان وهي على التوالي: 24 في المئة في مصر و20 في المئة في تونس كما لا تتعدى 9 في المئة في ليبيا. وكشفت الدراسة أن السياق التاريخي والظروف الاقتصادية والأجواء السياسية أظهرت اختلافات كبيرة بين الشعوب الثلاثة في تعريفها لمفهوم الديموقراطية. وفي بلد يعاني من أزمة اقتصادية طاحنة، فإن الديموقراطية تعني لحوالي 70 في المئة من المصريين تلبية الحاجات الأساسية وتقليل الفجوة الطبقية، أما لليبيين الذين يتمتعون بثروة نفطية، فقد رأى غالبيتهم أن الديموقراطية هي طريقة لتغيير الحكومات وتعزيز الحرية وحقوق الإنسان. أما بالنسبة لتونس، فتقع في منطقة وسطى بين مصر وليبيا بالنظر إلى أنها "تعاني مشكلات اقتصادية لكن أقل من مصر، وفي ذات الوقت فإن قيم الحرية والديموقراطية تمثل أهمية كبيرة للتونسيين" كما أوضحت الباحثة الأميركية. وقالت الباحثة الأميركية إن هذا المفهوم النسبي للديموقراطية ينبه إلى أن "الإسلاميين ليسوا عقبة في طريق الديموقراطية". كما يطرح ذلك أهمية "تغيير مفهوم عملية الانتقال السياسي، وتبني سياسات جديدة ودعم المؤسسات الديموقراطية وتلبية الحاجات الاقتصادية للشعوب، وضرورة إدراك أن نجاح الديموقراطية يعتمد على فهم الناس لها وليس فهمنا نحن لها". الأزمة الحقيقية عانى الشرق الأوسط لسنوات طويلة من غياب مفهوم الدولة المدنية الحقيقية، ما زاد من صعوبة جمع عناصر المجتمع المختلفة في بوتقة واحدة والتعامل معها بقدم المساواة. وأدت هذه الأزمة إلى بروز نزاعات انفصالية كما في ليبيا التي تحاول أيضا تغيير نمط اجتماعي بدوي يعتمد على التحالف بهدف السيطرة والنفوذ القبلي ما زاد من صعوبة تطوير هوية ثقافية وطنية. كما عجزت الأنظمة الجديدة أيضا عن طمأنة الأقليات الدينية وجانب كبير ممن يطلق عليهم "الأغلبية الصامتة" التي بينت الدراسة أنهم يشكلون الاتجاه السياسي العام في البلدان الثلاثة. اشتباكات بين كتيبة "درع ليبيا" ومتظاهرين مناهضين للميليشيات في بنغازياشتباكات بين كتيبة "درع ليبيا" ومتظاهرين مناهضين للميليشيات في بنغازي وحضرت أزمة الهوية الليبية في المشهد العام الليبي بسقوط نظام معمر القذافي وانتشار الميليشيات. ودفعت هذه الأزمة الليبيين إلى"الصراع من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب وأصبحت العملية الديموقراطية تسير جنبا إلى جنب مع العنف"، كما يقول الباحث جاكوب ويتشمان. أما في تونس ومصر، تقول لاست، فإن الأزمة  تتعلق بأسلوب الحياة فـ"التغييرات التي طرحت سياسيا واجتماعيا وتعدد وجهات النظر على جميع المستويات طرحت معها جدلا حول الأيدولوجيا في البلدين مع محاولات لتجديد وترسيخ معالمها". وبينت أن توظيف الدين لعب دورا أساسيا في تعميق هذا الإنقسام خاصة في مصر واستخدام الساسة ورقة "الصراع الأيدولوجي" بين الإسلام والعلمانية لكسب مؤيدين على حساب قضايا أخرى أكثر إلحاحا للجماهير العريضة. وأشارت إلى أن انتشار مظاهر التدين في تونس وبروز فكرة الأخلاق العامة والحكم على سلوكيات المواطنين تسبب في بروز جدل لدى قطاع كبير من التونسيين حول الهوية التونسية، ما رأته "تهديدا لعملية التحول الديموقراطي وبناء مؤسسات قوية، كما أنه يزيد من "فرص عودة الاستبداد السياسي ". وأضافت الباحثة الأميركية أن "أحد أبرز ملامح هذا التهديد هو الانقسام الايدولوجي في مصر حيث يحرص كلا الطرفين سواء السلطة أو المعارضة على حشد الناس العاديين تجاه فكرته الأيدولوجية بشتى الطرق"، مدللة على ذلك بأزمة "إسقاط الرئيس المصري محمد مرسي" واستخدام كلا الطرفين للأيدولوجيا لإقناع الآخرين. وتطالب لاست العالم بإدراك أن القضاء على الصراع الأيدولوجي في مصر وتونس يتطلب حماية المؤسسات الديموقراطية والحريات، أما في ليبيا فيتطلب بناء مؤسسات ديموقراطية غابت عنها لعقود. وتحذر إيلين من أن أزمة الهوية في ليبيا تهدد "بنشوب صراعات قومية في المستقبل أو في أي بلد عربي آخر قد يكون لديه نفس المشكلة". وفي هذا السياق، تختم الباحثة مداخلتها بالقول إن هذه النتائج تؤكد للجميع أن "أي تغيير في الأردن، على سبيل المثال سوف يتبعه صراعا على الهوية بين المجموعات والقبائل المختلفة التي سوف تقاوم أي محاولة لخسارة مكاسبها السياسية والاقتصادية".