بعد حملة إعلانية ضخمة، أطلقها التلفزيون الرسمي السوري، لأكثر من أسبوع، مروجاً لبثه لاعترافات العصابة الإرهابية التابعة لـ"جبهة النصرة"، التي نفذت عملية انتحارية لقتل الشيخ العلامة سعيد رمضان البوطي، جاء اليوم الموعود بثلاثين دقيقة من البث الاحترافي لشهادات أمراء الجبهة وتابعيها، مبيناً طريقة تخطيتهم وتنفيذهم للعملية، مرفقاً بمجموعة من الخطب، التي أطلقها الشيخ السوري في وقت سابق، بشأن الجهاد والشهادة، إضافة إلى صور تفاعلية تظهر الطرق والممرات التي استخدمت في العملية. وعلى الرغم من مرور تسعة أشهر على مقتل البوطي لكن تفاصيل العملية، ومن ورائها، كان مساراً للجدل في مختلف الأوساط السورية في الداخل والخارج، سيما أنها عملية الاغتيال الأولى والوحيدة، حتى الآن، التي تطال شخص غير عسكري، بل ديني، مرتبط مع الحكومة السورية. وجاء، في 22 آذار/مارس 2013، خبر اغتيال البوطي في جامع الإيمان في دمشق كصدمة للعديد من المتابعين للشأن السوري، سيما أنه لم يكن هناك أية مقدمات أو إشارات لهذه العملية، وفي تبعات الاغتيال تبادلت الحكومة والمعارضة الاتهامات، وألقى كل من الطرفين المسؤولية على الآخر. ونعت الحكومة، عبر وسائل إعلامها، البوطي، واعتبرته "شهيد الجماعات الإرهابية والتكفيرية"، واتهمت المعارضة بتنفيذ العملية، فيما قالت مصادر معارضة أن العلامة السورية كان على وشك الانشقاق، لذلك قامت حكومة دمشق بتصفيته، ولكنّ تسجيل يصور الحادثة نشره الإعلام العربي والعالمي بعد أيام من عملية الاغتيال، أظهر تناقض في الرواية الحكومية، وبيّن أن البوطي لم يقتل في الانفجار، بل قضى بعد لحظات من اقتراب أحد الأشخاص منه، فيما قال الإعلام الرسمي أن التفجير قتل 42 سورياً، وجرح أكثر 85 آخرين، في حين أن الصور التي بثت أظهرت عدم تأثر الجامع بأي تخريب، فالمكيفات في مكانها، والكتب على الرفوف، والسقف والأرض لم تتأثرا، وغيرها من التفاصيل، وهذا التسجيل الذي لم يعترف به التلفزيون الرسمي، والحكومة السورية، إلا لاحقاً. وبين الحكومة والمعارضة، جاءت الاعترافات الجديدة، التي بثها التلفزيون السوري، قبل أيام، لتمثل نقلة جديدة في مجريات الحادث، فإضافة للاحترافية، غير المعتادة من وسائل الإعلام السورية الرسمية، جاءت الـ30 دقيقة أشبه بفيلم وثائقي متكامل، يلخص عملية الاغتيال بكل تفاصيلها، ورغم استخدام التلفزيون السوري للتسجيل الذي بثته المعارضة، ولم يعترف به الإعلام السوري آنذاك، في نهاية الاعترافات، ولكنه لم يفسر مع ذلك التناقض الموجود في التسجيل، بداية من الشخص الذي اقترب من البوطي وانتهاءً بالمكان الذي لم يتأثر بانفجار أودى بحياة العشرات، إضافة إلى عدم اعتراف "جبهة النصرة" بالعملية، واستنكارها من جهات عدة مرتبطة بها. وعلى ما يبدو أن تفاصيل الاغتيال ومن وراءه لن تنتهي عند هذا الحد، فمازال هناك العديد من النواقص في رواية الحكومة، وكذلك في رواية المعارضة، وإن كان الإعلام السوري في هذه المرة تفوق على نفسه، على المستويات كافة، فلم تظهر علامات التلقين المعتادة في كل اعتراف، وبدت الروايات المقدمة من المعترفين منطقية إلى حد كبير، وإن كانت الحالة الدرامية والمؤثرات التلفزيونية مرتفعة وزائدة عن الحد المطلوب، لاسيما في طريقة جلوس المعترفين، وتموضعهم، كما هو واضح في الصورة، وطريقة تنقل الكاميرا فيما بينهم.