الدوحة ـ قنا
لم يكن الأمن بمفهومه الشامل مقتصرا في يوم من الأيام على الأمن العسكري والسياسي فقط بقدر ارتباطه بمعايير أمنية أخرى لا تقل أهمية عن الأمنين العسكري والسياسي لا بل وتوفر لهما السند الأساس من الدعم والاستقرار.. ومن بين تلك المعايير الأكثر أهمية وحيوية في توفير الأمن بمفهومه الشامل ،معيار توفر الامن الغذائي والمائي لأي دولة أو شعب في العالم حتى يتوفر له الأمن كاملا مستقرا .
واليوم، وبذات القدر الذي تولي فيه مختلف دول العالم ومنظماته القانونية والسياسية وحتى الانسانية أهمية بالغة للأمنين العسكري والسياسي، فإنها في الوقت نفسه لا تستطيع الفكاك من سبل توفير الامن الغذائي والمائي لتضمن لنفسها أمنا حقيقيا مكتمل الأركان.
وليس بعيدا عن مقولة "الرغيف مفتاح الأمن"، أطلقت الأمم المتحدة بمنظماتها المتعددة ومعها العديد من الهيئات الدولية ذات الصلة الى جانب غالبية دول العالم الثالث تحديدا صرخة مدوية تحمل في طياتها تنبيهات جادة محذرة من مغبة النقص الحاد في إمدادات الغذاء العالمي والنقص الكبير في كميات المياه الصالحة للشرب ،والاستخدام الآدمي في غالبية دول العالم.. الأمر الذي يضع تلك الدول وشعوبها تحت طائلة الفقر والتهديد من شبح المجاعة التي ربما تدفع نحو حروب أخرى ومن نوع مختلف تندلع في كوكب الارض بحثا عن مصادر الغذاء والماء .
ناقوس الخطر هذا دقته بشدة منظمة الأغذية والزراعة الدولية "الفاو" والمجلس العالمي للمياه في تقرير مشترك صدر أمس ينبه إلى أن كميات كافية من المياه ستتوافر لإنتاج المواد الغذائية اللازمة من أجل تلبية احتياجات ما يتجاوز تسعة مليارات نسمة كعدد منتظر لسكان العالم بحلول عام 2050، غير أن الاستهلاك المفرط، وتدهور المناخ وتبعات ما يشهده من تغيرات سوف تقلّص إمدادات المياه في العديد من أجزاء العالم لا سيما في البلدان النامية.
ودعا تقرير سُمي بـ "الورقة البيضاء" صادر عن هاتين الجهتين الدوليتين المتخصصتين والمعنون بـ "نحو مستقبل آمن مائياً وغذائياً"، إلى سياسات حكومية من قبل القطاع العام واستثمارات من قبل القطاع الخاص في دول العالم تضمن الإنتاج المستدام للمحاصيل والماشية والأسماك، وتضع في الاعتبار الحفاظ على الموارد المائية.. وأكد التقرير الدولي المشترك أن هذه الإجراءات ضرورية للحد من الفقر، وزيادة الدخل، وضمان الأمن الغذائي لأعداد كبيرة من سكان المناطق الريفية والحضرية.
وقال رئيس المجلس العالمي للمياه "بنديتو براجا"، بمناسبة انطلاق أعمال منتدى المياه العالمي السابع في مدينتي "دايجو وجوينبوك" بكوريا الجنوبية "إن الأمن الغذائي والمياه مرتبطان على نحو وثيق.. ونحن نعتقد أنه من خلال تطوير المناهج المحلية ورصد الاستثمارات اللازمة، سيصبح بوسع زعماء العالم ضمان أن تتاح المياه كمياً ونوعياً، ويمكن التوصل إلى تلبية متطلبات الأمن الغذائي في عام 2050 وما بعده".
وأضاف رئيس المجلس "أن "جوهر التحدي هو اعتماد برامج تنطوي على استثمارات تستند إلى عوائد المدى البعيد، مثل إعادة تأهيل البنى التحتية... وإذ يتعين أن تتخذ الزراعة مسار الاستدامة لا الربحية المباشرة".
وبحلول عام 2050 ستكون - حسب التقرير المشترك - هناك حاجة إلى نحو 60 بالمائة من الغذاء الإضافي لإطعام العالم- وما يصل إلى 100 بالمائة لإطعام البلدان النامية.. في حين ستظل الزراعة أكبر مستهلك للمياه على المستوى العالمي، وهو ما يمثل في كثير من البلدان نحو الثلثين أو أكثر من إمدادات المياه المستمدة من الأنهار والبحيرات والموارد المائية الجوفية.
ويشير تقرير "الفاو" والمجلس العالمي للمياه إلى أن الكثير من سكان العالم ومعظمهم من الفقراء سوف يواصلون كسب معيشتهم من الزراعة في عام 2050، حتى بالرغم من التوسع العمراني الحثيث.. ومع ذلك، سيشهد القطاع تراجعاً في إمدادات المياه المتاحة نظراً لتزايد الطلب التنافسي من جانب المدن والصناعة.
وفى الوقت الراهن، تؤثر ندرة المياه على أكثر من 40 بالمائة من سكان الكوكب، والمقدر أن تصل هذه النسبة إلى الثلثين بحلول عام 2050، ويُعزى ذلك على الأكثر إلى الاستهلاك المفرط للمياه في إنتاج الغذاء وقطاع الزراعة، فعلى سبيل المثال، في مناطق واسعة من جنوب وشرق آسيا، والشرق الأدنى وشمال أفريقيا، وأمريكا الشمالية والوسطى، يستخدم من المياه الجوفية كميات تفوق ما يمكن أن يتجدد طبيعياً في طبقات المياه الجوفية.
وأهابت هذه المنظمات الدولية التي تبحث عن الحلول العلمية لمشاكل البشر بالدول التي تملك مصادر مياه غنية كالأنهار ،الى تكريس جل اهتمامها للحفاظ على تلك الثروات المائية التي يذهب معظمها هدرا الى مياه البحار والمحيطات، وذلك عبر إنشاء السدود وخزانات المياه والعمل على استصلاح الزراعة واستحداث طرق ري حديثة لتوفير الغذاء لها ولدول العالم الأخرى الفقيرة بالإنتاج الغذائي ،مثل الكونغو بغية الاستفادة من مياه نهر الكونغو التي تضيع هباء في المحيط الأطلسي ،وكذلك لبنان على سبيل المثال التي تذهب غالبية مياه أنهاره الى البحر المتوسط .
ويعرض تقرير حالة انعدام الأمن الغذائي لعام 2014 التقديرات الجديدة لنقص التغذية والتقدم المحرز نحو تحقيق أهداف الإنمائية للألفية وتحقيق الغاية المتعلقة بالجوع في مؤتمر القمة العالمي للأغذية، فيما توضح عملية تقييم الموقف من حيث الحد من الجوع وسوء التغذية أن هناك تقدما مستمرا في خفض الجوع على المستوى العالمي في العديد من البلدان، بيد أنه ثمة حاجة إلى بذل جهد إضافي كبير في مناطق أخرى، وأن دوام الالتزام السياسي على أعلى مستوى هو شرط أساسي للقضاء على الجوع، ويستلزم وضع الأمن الغذائي والتغذية على أولويات الأجندة السياسية وخلق بيئة مواتية لتحسين الأمن الغذائي والتغذية.
ويتناول التقرير للعام المنصرم 2014 تجارب متنوعة من سبعة بلدان، مع التركيز بوجه خاص على البيئة التمكينية للأمن الغذائي والتغذية التي تعكس التزاما وقدرات عبر أربعة أبعاد: السياسات والبرامج والأطر القانونية، وتعبئة الموارد البشرية والمالية، وآليات التنسيق والشراكات، والأدلة القائمة على اتخاذ القرارات.
وتشير أحدث تقديرات منظمة الأغذية والزراعة إلى أن استمرار انخفاض مستويات الجوع في العالم إذ يقدر أن حوالي 805 ملايين شخص كانوا يعانون من نقص التغذية المزمن في الفترة من 2012-2014، وذلك أقل بأكثر من 100 مليون مما كان عليه الوضع على مدى العقد الماضي، وأقل بما قدره 209 ملايين ،مما كان عليه الوضع في الفترة من 1990-1992 ،كذلك، انخفض معدل انتشار نقص التغذية في الفترة ذاتها من 18.7 بالمائة إلى 11.3 بالمائة على المستوى العالمي، ومن 23.4 بالمائة إلى 13.5 بالمائة في البلدان النامية.
ومن بين 63 بلداً نامياً حقق 11 بلداً مستويات نقص تغذية تبلغ أقل من 5 بالمائة "الحد المنهجي الذي يمكن أن يؤكد أهمية النتائج المختلفة عن الصفر" في الفترة من 1990-1992، وتمكنت من الحفاظ عليها في تلك الفترة، ولذا فإنها ليست محط التركيز الرئيسي لتقرير عام 2014.
وتوضح الأرقام أن بلوغ غاية الجوع الخاصة بالهدف الإنمائي للألفية – خفض نسبة من يعانون من نقص التغذية في البلدان النامية إلى النصف بحلول عام 2015- أصبح في المتناول .
وعلى الرغم من التقدم العام، لا تزال هناك فروق كبيرة بين المناطق. حققت أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي أعظم تقدم عام في زيادة الأمن الغذائي، مع تقدم متواضع في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وغرب آسيا التي عانت كوارث طبيعية وصراعات.
الالتزام السياسي الثابت المستمر على أعلى مستوى، بالاقتران مع اعتبار الأمن الغذائي والتغذية أولوية قصوى، شرط أساسي للقضاء على الجوع.. وتبين دراسات الحالة الواردة في تقرير حالة انعدام الأمن الغذائي في العالم 2014 أن مناطق مثل أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي وأيضاً بلداناً منفردة عززت التزامها السياسي بالأمن الغذائي والتغذية.
ويتطلب خفض الجوع نهجاً متكاملاً حيث ينبغي أن يشمل "استثمارات من القطاعين العام والخاص لرفع الإنتاجية الزراعية وتحسين إمكانية الحصول على المدخلات والأراضي والخدمات والتكنولوجيا والوصول إلى الأسواق وتدابير رامية إلى تشجيع التنمية الريفية وحماية اجتماعية لمن هم أكثر انكشافاً على المخاطر بما في ذلك تعزيز قدرتهم على الصمود في مواجهة الصراعات والكوارث الطبيعية وبرامج تغذية محددة، خصوصاً لمعالجة نقص المغذيات الدقيقة لدى الأمهات والأطفال دون سن الخامسة".
وفي ظل هذه المخاطر المحدقة بالأمن والاستقرار العالمي هل تستفيق الدول، خاصة في العالم الثالث ومعها المنظمات الدولية المعنية على واقع أمنها الغذائي والمائي لتعمل بكل جد على تأمين مستقبل شعوبها في هذا الصدد، وتتعاون فيما بينها قبل أن تتحول المشكلة الى حروب ثنائية أو إقليمية وربما عالمية بفعل الحاجة الى الغذاء والماء