القاهرة ـ وكالات
دخلت الطبيبة المقيمة إلى عنبر الأمراض الصدرية.. واندفع صوتها بصباح الخير الجماعية المحايدة التى لم يستطع "هو" أن يحدد درجة عاطفيتها ولا درجة عمليتها.. لذا تركها تعبر من النافذة القريبة ولم يردّها.. لكنه هذا الصباح اعتدل من نومته وشد قدميه وحرك "المخدة" وثناها وجعل ظهره منتصبا بعض الشيء وحاول أن ينظم النَفَس المقطوع.. وأن ينطق الجملة مرة واحدة فى نفس واحد: دكتورة بعد إذنك أريد أن أقضى العيد فى البيت..
ولكونه يحتاج إلى الأكسجين بصورة مستمرة وبمعدل 5 لترات يرتفع فى وقت الأزمات إلى 7 لترات بسبب فشل من النوع الثانى فى الجهاز التنفسى.. لذا لم تقطع الطبيبة فى الأمر بموافقة أو برفض.. فقال: لى ستة أشهر فى هذا المكان أرجوك يا دكتورة.
2
بعد أن أنهى المكالمة وكان صوته متحشرجا.. وحاول هو أن يجعله أكثر اختناقا.. يريد أن يترك أثرا قويا بالمرض.. وأن يبعث برسالة أنه مريض وأنه يحتاج للمساعدة.. كانت المكالمة تتعلق بأسطوانة أكسجين كبيرة ومنظم.. الأسطوانة هى الوحيدة القادرة على أن تجعله يبقى أيام العيد الثلاثة فى بيته.. ونبرة صوته الضعيفة وحدها القادرة على تحقيق التأثير المطلوب فى القائمين على الأمر كي يوافقوا على منحة الأسطوانة والمنظم..
3
دفع يده أسفل السرير وسحب الحقيبة البلاستيكية (إحدى فوارغ التوحيد والنور) ممتلئة حتى منتصفها بحاجاته القليلة.. بعض الملابس.. كوب فارغ.. ملعقة.. طبق بلاستيكي.. وحذاء تراكم عليه التراب فمسحه فى طرف ملاءة السرير..
4
فى الليل بدأت بوادر أزمة التنفس تظهر.. يحتاج إلى أن يرفع مؤشر الأكسجين إلى 7 لترات فى جهاز الأكسجين المركزى المعلق على الحائط.. لكن يده لا تصل إليه.. وهو لا يريد أن يصرخ حتى لا يتراجع الأطباء بعد أن وافقوا على خروجه من المستشفى فى أيام العيد.. لا يريد أن يقضى العيد فى السرير الذى اختنق برائحته.. حاول مرة وثانية وثالثة.. لمح قدميه تصبغان باللون الأزرق المميت.. الأشياء بدأت تهتز ثم تتراقص بعنف أمامه.. بصوت متقطع كفحيح لا يعرفه بدأ ينادى على جاره فى السرير الآخر.. والذى كان يلهو بتليفونه المحمول وصوت التكات الواضح تحول إلى فرقعات فى هواء العنبر.. نادى ثانية وثالثة: حمدى.. حمدى.. حمدى..
5
لا يعرف متى عاد إليه وعيه.. الطبيبة المقيمة واقفة بجوار السرير تضع يديها فى معطفها.. بدأت الأشياء تعود إلى طبيعتها من بين الغشاوة التى بللت عينيه.. كان صوت تنفسه مرتفعا أكثر من اللازم.. ردد بينه وبين نفسه: لم يحدث شيء ..
لمح في يد الطبيبة قرار السماح له بالخروج من المستشفى.. وبلا مبالاة تركته على طرف السرير..
6
فى السيارة الربع نقل العائدة به إلى البيت.. أغمض عينيه حتى خرج من باب المستشفى.. كان يجلس بجانب السائق.. وفى الصندوق الخلفى أسطوانة أكسجين.. ومنظم.. وأخوه..
فى المرآة الجانبية للسيارة لمح الأسطوانة المتكئة على جانبها تُخرج فمها ورقبتها خارج السيارة.. تحسس "الماسك" الذى فى جيبه وفكر فى أيام العيد الثلاثة.. لم يشأ أن يفكر الآن فى العودة إلى العنبر الممتلئ بالوجوه الزرقاء..
7
توافد الجيران والمعارف عليه.. كل يسلم ويعتذر أنه لم يذهب لزيارته فى المستشفى.. لم يقل واحد منهم أنهم كانوا يخشون العدوى..
جلس والأسطوانة الكبيرة تسرب له الأكسجين عبر المنظم فالماسك، والأسطوانة تصدر أزيزا جميلا محببا لنفسه جعله يشعر بارتياح كلما سمع صوتها الخفيض الذى يعنى أن الأكسجين لم ينفد بعد.. فجأة فكر فى نزع الماسك من أنفه وأن يقوم.. ويتحرك.. ويجرى..
8
عندما دخل الرجل الأخير أصابته رجفة ما.. رجل يشبه حمدى جاره فى العنبر الذى كان يعبث فى مفاتيح تليفونه المحمول بطريقة مستفزة.. لكن الرجل الأخير يختلف عن حمدى.. فقسمات وجهه أكثر غلظة وجسده: أكثر قوة واستقامة.. لما دخل عليه كاد هو ينكره ويقول: من أنت أنا لا أعرفك؟.. لكن هيبة واضحة فى الرجل جعلته يصمت..
جلس الرجل إلى جواره ومد يده فى جيبه وأخرج علبة سجائره وقدم له واحدة.. قاطعه بـ"لا" ضعيفة.. ثم مد يده المرتجفة وتناول السيجارة المشتعلة.. بعد النَفَس الأول انتبه إلى أن أصابعه أصبحت زرقاء ثم انتشر اللون الأزرق فى ساقيه ومنها لباقى جسده.. الأسطوانة غير قادرة على أن تسرب له الأكسجين.. ما زال العيد بعيدا.. والليل فى أوله.. استجدى هو حمدى أن يرفع مؤشر الأكسجين .. الرجل ذو الهيبة أغلق الأسطوانة تماما فانقطع الأزيز المحبب.. ثم جلس على طرف السرير قبل أن ينبت له جناحان.
أرسل تعليقك