القاهرة ـ وكالات
لا تسعى رواية "أساطير رجل الثلاثاء"، للشاعر والروائي، صبحي موسى، لتقديم واقع الجماعات الإسلامية في إطارها الحديث فقط، بقدر ما تسعى للتعمق في تجربة وفكر الجماعات التي قامت على فكر ونهج ديني في التاريخ الإسلامي.
وتربط الرواية، الصادرة مؤخراً عن سلسلة كتابات جديدة بالهيئة العامة للكتاب، بين القديم والجديد في إطار أدبي يحتل أسامة بن لادن بؤرة مشهده السردي عبر حيلة فنية تقوم على أن بن لادن يملي مذكراته على صبي يرافقه في كهف على الحدود الأفغانية الباكستانية، ون ثم فمنطق الحكي يأتي من خلال وجهة نظر زعيم تنظيم القاعدة الذي احتل شهرة كبيرة في الأدبيات الإعلامية عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001.
في هذه الرواية التي يقوم تنظم لها عدة جهات ثقافية حفلات توقيع احتفاء بصدورها ـ من بينها أتيليه القاهرة، ودار العين، ومكتبة مصر، وفرع اتحاد الكتاب بالمحلة الكبرىـ يستعرض الكاتب منطق الذهنية الإسلامية في الخروج على الحاكم، وكيفية استخدام كل الخارجين على النظام لحاكم لآيات القرآن الكريم، وكيفية تقديمها لأنفسها باعتبارها الفرقة الناجية، وأن ما عداها في النار، ومن ثم كفرت جميعها بعضها بعضاً، وأخرجتها من الملة، وشنت عليها حروباً راح ضحيتها عشرات الآلف، وهو ما يجعلنا نفكر بعمق في التجربة الراهنة للإسلام السياسي في الحكم باسم الدين، ومعارضيه على أساس وأيديولوجية دينية يرى أصحابها أنهم أحق بالحكم لأنهم هم الذين على جادة الصواب، وما عداهم خارج عن إطار الدين، ومبادئه وشرائعه، وقد وصل الأمر بالبعض أن زيف أحاديث على رسول الله كي يوطد حكمه مثلما فعل العباسيون، أو لخلق مبرر قوى لخروجه على الأمويين كما فعل الشيعة حين ادعوا أن رسول الله حدد أمارات المهدي في حديث عن صفية عمة رسول الله، وبالطبع كانت الأمارات جميعها مفصلة على محمد بن عبد الله الملقب بالنفس الذكية، أو بإعادة تأويل أحاديث رسول الله وتفسيرها حسب الهوى كما فعل عمرو ابن العاص حين قال لمن شكك في شرعية حرب معاوية لعلي بن أبي طالب بناء على قتلهم عمار بن ياسر، والذي قال له رسول الله " ستقتلك الفئة الباغية" فما كان من الزبير بن العوام إلا أن اعتزل الحرب مع على في موقعة الجمل حين تعرض له عمار وقد تجاوز الثمانين عاماً، لكن هذا الخطأ وقع فيه جنود معاوية فقتلوا عماراً، فتذكر عبد الله بن عمرو بن العاص هذا الحديث فقاله لأبيه ومعاوية، موضحاً أنهم بقتله هم الفئة الباغية، فقال له عمرو ما قتلناه ولكن قتله الذي أخرجه، وكان هذا التأويل بمثابة المخرج العبقري من أزمة مقتل عمار بن ياسر.
هكذا تضعنا رواية موسى أمام العديد من المفاصل التاريخية المهمة لحالات الخروج الإسلامي على الحاكم، مستغلة التفسير والتأويل سواء للآيات أو الأحاديث التي بلغ حد التعامل معها تزييف بعضها وزجها على لسان بعض الصحابة الموثوق في رواياتهم، وهو نفس النهج الذي استخدمته جماعات الإسلام السياسي في العصر الحديث، بدءاً من البنا الذي قال ممتدحاً اسماعيل صدقي ( واذكر في الكتاب اسماعيل إنه كان صديقاً نبياً)، مروراً بمحمد عبد السلام فرج الذي أطلق على الجهاد مصطلح " الفريضة الغائبة"، ومصطفى مشهور الذي أسس التكفير والهجرة على أساس أن المجتمع كافر وأنه لابد من هجرته كما هاجر رسول الله من مكة إلى المدينة، وذلك استعداداً لإعادة فتحه من جديد كما فتح الرسول مكة وطهرها من المشركين.
لكن موسى لا يقدم عمله على أنه بحث فكري، بقدر ما هو عمل روائي يقوم على ما هو متخيل إلى جانب ما هو واقعي أو أثبتته الوقائع التاريخية المعروفة والشهيرة، راصداً من خلال السرد مسيرة ألف وأربعمائة عام من العمل السياسي للجماعات الإسلامية، بدءاً من حادث رغبة مبادلة أهل مكة رسول الله بعمارة بن الوليد ـ الشقيق الأكبر لخالد بن الوليدـ الشاعر التاجر البهي، لكن عم رسول الله قال لهم أعطيكم ابن لتذبحوه وتعطونني ابنكم لأسمنه لكم، تلك والله قسمة ضيظى، مروراً بحياة عمارة التي أغفلتها الكثير من الأدبيات التاريخية، والتي امتدت بشكل أسطوري حتى عهد عمر بن الخطاب، ومروراً بحادث السقيفة وما حدث بين المهاجرين والأنصار وخلافهم حول من يخلف رسول الله، وحادث خروج أهل مصر والكوفة والبصرة على عثمان بن عفان لمجاملته لأقاربهم، وحادث الفتنة الكبرى وموقعة الجمل ومعركة صفين وخروج الخوارج على علي ابن أبي طالب، ونشأة فرق الشيعة وتبايناتها وتأويلاتها وتأهليه بعضها لعلي، مروراً بالخوارج الصفرية والأزارقة والرستمية، والشيعة الاسماعيلية وما نتج عنها من جماعات كالقرامطة والحشاشين وغيرهما، وصولاً إلى جماعة الإخوان المسلمين ما نتج عنها من جماعات متشددة كالجهاد والقطبيين والتكفير والهجرة، والسلفيين وما نتج عنهم من جماعات الدعوة السلفية والجمعية الشرعية، وما أثاره هؤلاء من فتن وأحداث كالعسكرية الفنية ومقتل السادات وحادث أديسا بابا ومحاولة تفجير برجي مركز التجارة العالمي في التسعينات والتي عوقب بسببها عمر عبد الرحمن بالسجن مدى الحياة في أمريكا، وانتهاء بأحداث 11 سبتمبر عام 2001 التي كان بن لادن وجماعته هم بطل المشهد فيها.
بن لادن هو الشخصية المحورية في الرصد والسرد بحكم أن العمل يجيء كسيرة ذاتية له، لكنه ليس الشخصية الأساسية في النص، فهناك العديد من الشخصيات التي شملته بالرعاية حتى اندمج في التنظيم وأسس تنظيمه الخاص الذي عرف بالقاعدة، وهناك أصدقاؤه ورجاله ونساؤه ومبعوثيه، هناك العديد من الأسماء الشهيرة في الواقع والتي لا يعرف الكثيرون عن حياتها وطريقة تصرفها الكثير، ولا دورها في التنظيم ولا أجادها فيه، هناك الكثير من الأحداث والوقائع التي لم تذكر عنها الأدبيات التاريخية الحديثة الكثير، كمعارك بن لادن في أفغانستان، وكيفية تدبير حادث انهيار البرجين، وخلافه الشهير مع المملكة العربية السعودية وكيف سحبوا منه جنسيته، ولا كيف هاجمهم حتى اعتقلوه في بيته، ولا كيف تصرف في جيشه المنتصر بعد انتهاء الحرب الأفغانية في الثمانينيات، العديد من الأحداث والوقائع التي كان على مؤلف الرواية أنه يبحث عنها في قصاصات الورق وبين سطور الكتب التي جاءت عن التنظيمات الإسلامية، مشعلاً ذهنه في رصد كيفية استفادة هذه الجماعات من فكر الشيعة في القرون الوسطي في بناء تنظيماتها، ويكفية تعاونها جميعاً من تحت ستار الكلاشيهات الكلامية عن الخلاف بين الشيعة والسنة، وكيف أصبح مبدأ الغاية التي تبرر الوسيلة هو الحاكم لفعل الجماعات الإسلامية، وكيف تدار أموالها في العالم أجمع، وكيف تعمل في كل النشاطات المعلنة كالتجارة وجمع التبرعات وغيرها، أو النشاطات غير المعلنة كالقتل بالأجر أو غسيل الأموال أو زراعة وتجارة المخدرات.
الرواية في سردها الحميم عن بن لادن كرجل كمريض بإعادة إنتاج التاريخ ترصد كل التفصيل الإنسانية التي أودت بتحوله من حياة القصور إلى حمل السلاح على رؤوس الجبال، كما ترصد علاقات الأنظمة العربية والغربية بهذه التنظيمات وكيفية دعمها لها وأهدافا منها، وكيف تخلت عنها فحولتها إلى سرطان ينتشر في جسد العالم كله ويهدده في كل مكان، ترصد مأزق الإسلاميين بوصفهم أناس رومانتيكيين يسعون إلى إعادة عمل عجلة التاريخ إلأى الوراء بحثاً عن النهضة أو اللحاق بقطار الغرب، لكنه القطار الخاطئ والمنهج الخاطيء والتوقيت الخاطئ، ذلك الذي أدى بانهيار كل شيء وجر الخراب على كل المواطئ التي انتقلوا إليها.
لا يعد هذا هو العمل الروائي الأول لصبحي موسى المولود عام 1972 بقرية شما بمحافظة المنوفية، والحاصل على ليسانس الآداب في علم الاجتماع عام 1994 من جامعة شبين الكوم، والذي يعمل الآن مديراً للنشر في الهيئة العامة لقصور الثقافة، فقد سبقته ثلاثة أعمال روائية هي: "صمت الكهنة" الصادرة عن سلسلة أصوات أدبية عام 2003، "حمامة بيضاء " الصادرة عن دار ميريت للنشر عام 2005، " المؤلف" الصادرة عن دار الدار عام 2008، فضلاً عن خمس مجموعات شعرية هي ( يرفرف بجانبها وحده، قصائد الغرفة المغلقة، هانيبال، لهذا أرحل، في وداع المحبة.
أرسل تعليقك