عُرف الصحافي أنغيل ساستري لدى مشاهدي التليفزيون الإسباني بتقاريره التليفزيونية المغامرة من أميركا الجنوبية والشرق الأوسط, إلا أن ساستري الذي يتمتع بثقة كبيرة في ذاته اختفى تماما لكنه عادة مرة أخرى ليصف تجربته على مدى العام الماضي قائلا "لم أنم لمدة أسبوعين ولدي نوبات هلع وأرق وتوتر ما بعد الصدمة"، واعتقل ساستري في يوليو/ تموز 2015 واثنين أخرين من الصحافيين الإسبان هما أنطونيو بامبلايغا وخوسيه مانويل لوبيز بواسطة جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة في سورية وتم احتجازهم لمدة 10 أشهر، ولم توضح السلطات الإسبانية ملابسات الإفراج عن الصحافيين الثلاثة في مايو/ أيار ولكن يُفهم على نطاق واسع كما حدث في حالات سابقة مع مواطنين إسبان أنه تم دفع فدية.
وعاد الصحافيون الثلاثة لاستقبال الأبطال حيث نشر رئيس الوزراء الإسباني ماريانو راخوي صورة للصحافيين وهم ينزلون من طائرة وفي قاعدة نوريخون الجوية وبثت قنوات التليفزيون الوطنية مشاهد عاطفية عند جمع شملهم مع أسرهم في مدرج المطار، كما اتصل الملك فيليب بالرجال الثلاثة للترحيب بهم بعد عودتهم للمنزل، وفي أول مقابلة له مع وسائل الاعلام باللغة الإنكليزية أوضح ساستري أن الاهتمام بالتركيز على عودته سالما تسبب له في شعورا مزعجا، مضيفا عبر سكايب " نحن بحاجة إلى وضع التركيز على السكان المدنيين في سورية، نحن بحاجة للتحدث عن وحشية النظام الذي أسقط براميل متفجرة على شعبه، نحن بحاجة للحديث عن مدى هشاشة الوضع بالنسبة للصحافيين المستقلين الذين يعملون في مناطق النزاع، فيجب على وسائل الاعلام تنفيذ قصصنا ونشرها ونحن بحاجة إلى دفع رسوم مناسبة لأن الحروب دون شهود هي أسوأ أنواع الحروب".
وولد ساستري (36 عاما) في قرية بينيتو في غرب إسبانيا، وكان أول منصب له كمراسل في لندن، وانتقل ساستري الذي وصف ب "طالب الأدرنالين" إلى بوينس آيرس في الأرجنتين، ومن هناك بدأ تغطية أميركا اللاتينية والصراعات في كردستان والأراضي الفلسطينية وأوكرانيا وسورية، وجاء في سيرته الذاتية على تويتر " القلب منقسم بين أميركان اللاتينية والشرق الأوسط"، وعمل ساستري في أميركا اللاتينية كمشارك منتظم في التليفزيون الإسباني والإذاعة والصحف، لكنه في عام 2013 أخذ اجازة من عمله واتجه إلى سورية متحملا التكاليف على نفقته الخاصة لتقديم القصص من المناطق التي يسيطر عليها المتمردون، ويقول ساستري الذي اتهم المحطات التليفزيونية الغربية بالاعتماد بشكل كبير على اللقطات التي قدمتها الفصائل في الحرب " ذهبت لأخبر بما يحدث في سورية، لا يكفي نشر لقطات من القنابل أو إطلاق النار فنحن نحتاج إلى وجود الصحافيين على أرض الواقع لترجمة المعلومات وإجراء مقابلات، النشطاء هناك حلوا محل الصحافيين".
وقرر ساستري العودة في صيف 2015 وسافر مع بامبلايغا ولوبيز لمحافظة هاتاي جنوب تركيا حيث استأجروا مهربين لنقلهم عبر الحدود إلى سوريا، وأوضح ساستري أنه كان على وعي بالمخاطر التي يواجهها قائلا " منذ لحظة دخولك سوريا فإنك تصبح هدفا عسكريا واقتصاديا في ظل بحث الناس عنك لاختطافك وبيعك إلى إحدى الجماعات المتمردة".
ولم تكن الرحلة إلى شمال سورية سهلة منذ بداية الحرب لكنها أصبحت محفوفة بالمخاطر على نحو متزايد بحلول عام 2015، وحذر صحافيون آخرون ساستري وزملاءه لعدم القيام بهذه الرحلة، حيث خلت وجهتهم إلى شرق حلب من المواطنين والوافدين الجديد وبالتالي يسهل اعتبار الإسبانيين الثلاثة كأجانب، وفي 10 يوليو/ تموز نشر ساستري آخر تغريده له لعدة شهور جاء فيها " كلمة الشجاعة بالإسبانية والإنكليزية والعربية".
وتابع ساستري " اختبأنا في غابة ليلا للتأكد من عدد حرس الحدود الذين يمروا، وأخذونا إلى مزرعة وفي صباح اليوم التالي استكملنا الطريق على جرار عبر الأراضي الزراعية إلى حقل الزيتون، وظهر لنا 5 أطفال بين أعمار 10 إلى 14 عاما بين أشجار الزيتون وأرشدونا عبر الطريق"، والتقى الرجال الثلاثة مع مُنظم خارج إدلب واتجهوا إلى المدينة التي دمرها القصف، ويقول ساستري " تبدو حلب الأن مثل متاهة الفئران والناس ما زالوا يعيشون هناك ولا يمكنهم الخروج ويسمعون باستمرار أصوات المروحيات تلقي قنابل عليهم".
واتجه الصحافيون الثلاثة ومعهم سائق ومرشد ومُنظم لتصوير تقرير عن المرضى المهجورين في مستشفى مهجورة للأمراض العقلية، وعندما وصلوا إلى وسط حلب اعترضتهم سيارة فان وقفز منها 6 رجال شاهرين بنادق الكلاشينكوف وقاذفات قنابل صاروخية وأخذوا ساستري ورفاقه إلى السيارة وأجبروهم على الجلوس منكسي الرؤوس باستمرار إلى الركبة، ويعتقد ساستري أن خاطفيه ينتمون إلى جماعة متمردة صغيرة احتجزتهم لبيعهم إلى جماعة أكثر قوة، وعلى مدى 10 أشهر من الاعتقال انتقل ساستري بين ستة أو 7 أماكن مختلفة وفي النهاية تم فصله عن رفاقه، وفي إحدى هذه الانتقالات تم تسليم ساستري إلى جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة في سورية إحدى الفصائل الإسلامية القوية في البلاد، وخلال الحرب احتجزت جبهة النصرة عدة رهائن غربية بما في ذلك عمال الإغاثة الإيطاليين فانيسا مارزولو وغريتا راميلي والصحافيين الأميركيين ثيو بادنوس وماثيو شراير.
وتخوص جبهة النصرة صراع مرير مع منافستها تنظيم داعش، ويقول ساستري أنه لم يكن تحت تأثير أي أوهام تقدم أي أسباب للتفاؤل، مضيفا " هؤلاء الأوباش مثل داعش لم يكن لديهم أدنى مشكلة في قتلي في أي لحظة"، ويعتقد ساستري أنه تم احتجازه في مناطق في ادلب ومعرات تحت سيطرة جبهة النصرة بالقرب من الحدود التركية، وكانت عمليه نقله بين السجّانين تتم عادة في الليل وكان ساستري دائما معصوب العينين ومكبل اليدين، وعلى الرغم من نقله إلى مناطق يقل فيها القصف حيث يباع الرهائن مقابل المال لم يكن هناك دافع إنساني لديهم، ويضيف ساستري " كنت كنزا لهم وأرادوا منع حدوث أي شئ لي".
وتنفي معظم الحكومات الأوروبية بما في ذلك إسبانيا وفرنسا وألمانيا رسميا الدفع لتحرير مواطنيها إلا أنه تم ضخ ملايين الدولارات في الخاطفين الإسلاميين خلال السنوات الأخيرة في كثير من الأحيان من خلال بلدان ثالثة بما في ذلك دول الخليج، وفي المقابل رفضت الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا دفع الفدية وتمكن عدد قليل من مواطنيها من الهروب من الاختطاف من قبل الجهاديين على قيد الحياة، واعتُقل ساستري في سلسلة من الغرف الصغيرة في شبه مزرعة مهجورة محاطة بأشجار الزيتون، وفي البداية كان السجانين يتواصلون معه، وأضاف ساستري " تحدثت معهم قليلا محادثات سياسية في البداية وقالوا أن عدوهم الرئيسي هو داعش، وعرضوا عليَّ شرائط فيديو تتحدث عن الحرب محاولين تبرير ما يقومون به، وتطرقت المحادثات إلى الجانب الديني وحاولوا تحويلي إلى الدين الإسلامي وتحدثوا عن مزاياه مقارنة بالكاثوليكية وعن الجذور المشتركة للأديان بما في ذلك اليهودية، وقالوا أن القرآن وحي مباشر من الله في حين مرت الأناجيل بأيادي كثيرة وخضعت لعدة ترجمات"، وانتهت تلك المحادثات فجأة وتم تسليم ساستري إلى أيدي جبهة النصرة.
وتم تركيب كاميرا في الزنزانة الخاصة بساستري حيث كان الخاطفون يرونه على مدار الساعة وكان ممنوعا من القيام بأي حركة ولا يمكنه سوى التمدد فقط وسُمح له بالمشي في دوائر في الغرفة لمدة 15 دقيقة، وأضاف ساستري " أصبح التواصل بيننا في الحد الأدنى وقيل لي أنني سجين حرب، وكانوا يحضرون لي الطعام ويأخذوني إلى المرحاض دون أي حديث، ولم يكن هناك أي تعاطف، وليس لدي متلازمة ستوكهولم"، وكانت المواد المتاحة لديه للكتابة فقط كتابين عن الإسلام أعطوا له بواسطة مجموعة أولى من السجانين، وكانت اللغة الانكليزية هي المشتركة في الحديث عندما تحدث إليه السجانون، ولا يعتقد ساستري أن أي منهم بريطانيا أو أميركيا قائلا " إنهم بالتأكيد عرب ولا أعرف ما إذا كانوا سوريين أو ليبيين أو عراقيين".
وكان الخوف الأكبر لدى ساستري أن يُباع إلى داعش أو ببساطة أن يتم التخلي عنه، وتابع ساستري " كنت أحاول آلا أصاب بالجنون عند احتجازي لساعات طويلة في غرفة كنت أتشبث بالأمل بأنهم لن يتخلوا عني، وكان خوفي الأكبر هو أن أباع إلى داعش أو أن يتم إعدامي، ولم يكن الخوف بسبب أشرطة فيديو الإعدام التي تنفذها داعش ولكن بسبب الأنواع المختلفة من التعذيب الذي علمناه عنه من التقارير بواسطة الرهائين الأخرى"، وظل ساستري متحفظا حول تفاصيل إطلاق سراحه حيث قال " أخذونا إلى الحدود وأطلقوا سراحنا".
وظلت الحكومة الإسبانية ملتزمة الصمت حول تفاصيل إطلاق سراح الصحافيين وأصدر مكتب راخوي بيان تبين فيه أن الدول الحليفة والصديقة مثل تركيا وقطر لعبت دورًا، وأعرب ساستري عن شعوره بالامتنان لضبط النفس الذي أبدته وسائل الاعلام الإسبانية التي امتنعت عن بث الفيديو الذي أجبِر على تصويره بواسطة خاطفيه مضيفا " ما يريده هؤلاء الناس هو أن يتم مشاهدة أشرطة الفيديو الخاصة بهم إلا أن وسائل الاعلام الإسبانية ارتقت على هذا الموقف لأن أفضل ما يمكنك القيام به هو الحفاظ على الهدوء والسماح للعملية بأن تأخذ مجراها".
وأصبح ساستري متشككا من أي فرصة للسلام في المستقبل القريب بعد احتجازه لمدة 10 أشهر، وأردف ساستري " أشعر بالتضامن مع الشعب السوري وبالخجل من موقف الدول الغربية الذين يتحدثون فقط عن سورية عندما تتعرض مصالحهم للتهديد بسبب الوصول الجماعي للاجئين"، وأوضح ساستري أن ما بدأ كثورة ضد نظام قمعي أدى إلى احتجاز رهائن بواسطة المتطرفين الإسلاميين، واضاف ساستري " في الوقت نفسه النظام الذي يلقي القنابل على شعبه مدعوم من قبل تحالفات مع إيران وروسيا وبقية دول العالم تغض الطرف عن ذلك مع السماح لبشار الأسد بالبقاء في السلطة، وحتى نكون واقعيين لا يبدو أنه سيكون هناك نهاية سعيدة تلوح في الأفق بالنسبة لسورية ، إنه طريق مسدود".
أرسل تعليقك