تونس - حياة الغانمي
جعلت الأزمة الاجتماعية المتصاعدة في تونس، عددًا كبيرًا من الرجال والنساء والاطفال يجلسون في الشوارع وأمام المساجد وفي الأسواق يتسولون. والتسول هو أحد الظواهر الاجتماعيـة التي تفشـت في الآونـة الأخيـرة بشكـل كبيـر ، فأصبحـت تشكل نقطة سوداء في قلب الدولة والمجتمع . فلا تكـاد تخلو شوارع أغلب المدن التونسية ووسائل النقل العمومي والخاص من انتشـار المتسوليـن، وقد يكون فعلا الوضع الإقتصادي الهش، وانتشار البطالة وغياب العدالة الاجتماعية، والإشكالات السياسية والدينية والإقتصادية، أحد أسباب انتشار هذه الظاهرة التي لابد للدولة من أن تتدخل لحماية مواطنيها من تأثيرات غياب أبسط مقومات العيش الكريم والتشرد عن طريق خلق فرص عمل للشباب وتحسين جودة التعليم والصحة وضمان كرامة لمواطنيها.
لكن التحقيقات الاجتماعية التي أجريت أظهت أن المتسول ليس دائمًا فقيرًا، فأحيانا يصبح التسول مرضًا وطمعًا وصنعة لدى بعض ضعاف النفوس. ولعل المتسولة التي توفيت في منطقة جبنيانة من ولاية صفاقس والتي عثر في منزلها على عشرات الملايين وعلى ممتلكات وحساب جاري وغيرها،اكبر دليل على ان التسول قد يتجاوز الاحتياج والفاقة ليصبح وسيلة لتكوين ثروة دون تعب...فكيف يمكن ان نميز بين من اجبرته الحياة القاسية على مد يده للتسول والحصول على ما يسد به رمق الجوع ،وبين من يتحيل ويمد يده لاسباب لا علاقة لها بالفقر ولا بالحاجة؟ ثم لماذا انتشرت الظاهرة في الفترة الاخيرة؟ كم عدد المتسولين في تونس؟ وما حقيقة الشبكات التي تشغل الاطفال الصغار وترسل بهم الى الشوارع والمحطات ليتسولوا؟
وحسب احصائيات وزارة الشؤون الاجتماعية، فإن عدد المتسولين في تونس فاق 39 الفا..منهم رجال ونساء واطفال...يتسولون في الحدائق العمومية وعلى الارصفة وفي وسائل النقل وامام المساجد وفي مناطق عديدة في ظل ظروف معيشية صعبة واشتداد حدة الفقر على كثير من الأسر التونسية، وبطقوس وعادات تعدّ في نظر البعض سلوكاً منبوذاً ومتدنياً، لكنها بنظر أصحابها الطريقة والحيلة الوحيدة لكسب رزقهم وسد احتياجاتهم التي تزداد كل يوم. وقد امتهنت الكثير من النساء على اختلاف أعمارهن التسول كمصدر للدخل اليومي. ربما الحاجة، وربما طمع الأسرة أو تفككها، وربما أسباب أخرى تدفع بنساء مسنات وفتيات في سن الزهور إلى طرق أبواب التسول في الشوارع.. وكم هو مؤلم ان تجد فتيات في عمر الزهور أصبحن صورة متكررة ومشهداً مألوفاً نراه في معظم شوارع العاصمة، جمعتهن الفاقة ودفعهن الفقر.. يرمقن الناس بنظرات مليئة بالتوسل والرحمة والعطف يكسبن من خلالها ما يسد به جوعهن. وليست النساء فقط تتسولن في شوارعنا بل إن أطفالا في عمر الزهور من الجنسين تراهم يجوبون الشوارع كامل ساعات النهار، لباس لا يقي من برد الشتاء و قساوة الطبيعة تراهم يرتدونه رثا مثيرا للشفقة ، يعترضونك في كل نهج يلتمسون الحصول على ما تجود به يداك من أموال قليلة يقولون أنها لشراء الرغيف ، لكن الحقيقة قد تكون عكس ذلك..
وقد تم خلال فترة ليست ببعيدة تحرير 15 طفلا كانوا على متن شاحنة خفيفة قبل توزيعهم على مفترقات الطرق في ضواحي العاصمة الشمالية حيث يتم استغلالهم في التسول. وقد اشتبه اعوان الامن في حدائق قرطاج في امر شاحنة خفيفية كان يركبها كهلان.وبعد ايقافها اكتشف الاعوان 15 طفلا (اناث وذكور تتراوح اعمارهم بين 4 سنوات و14 سنة) كانوا "مشحونين" في صندوقها الخلفي. وكشفت التحقيقات ان احد الكهلين تعود على نقل اولئك الاطفال من بعض الجهات الداخلية الى العاصمة وضواحيها حيث يتم توزيعهم على الشوارع والانهج ومفترقات الطرق واستغلالهم في التسول. وفي المساء يتم تجميعهم وجمع مداخيل يومهم من طلب الصدقة وتمكين اوليائهم من بعضها في شكل عمولة لقاء موافقتهم على استثمار ابنائهم في هذه المهنة.وقد اذنت النيابة العمومية بفتح بحث في الواقعة قصد الكشف عن جميع ملابساتها وايقاف كل مورط فيها بالاضافة الى توفير الرعاية اللازمة لؤلائك الاطفال. وقد اعترف الشخصان الموقوفان بجلب الاطفال من من جهة حاسي الفريد من ولاية القصرين بغاية استغلالهم في جمع الأموال عن طريق التسول.
والجدير بالذكر هو انه لم يعد التسول في تونس لسد الرمق، وإنما أصبح احترافا لما يدره من مداخيل في واقع تفشى فيه الفقر والبطالة والأمية، ومع اقتراب المناسبات الدينية لا يكاد شارع او باب مسجد يخلو من اياد تمتد تطالب الناس بالصدقة، مستخدمة عدة اساليب وعبارات للاستعطاف، وتعتبر المساجد المكان الاستراتيجي لهؤلاء، لأن قلب المصلي يكون لحظتها قد رق وخشع، وبالتالي فإنه يكون اقرب إلى التصدق وفعل الخير بكل سخاء.. ويستخدم المتسول او المتسولة لذلك عبارات تخاطب العاطفة بقوة واحترافية بالغة في كثير من الحالات، الى جانب نوعية اللباس، وأحيانا يصطحب معه أطفالا صغارا ورضعا للاستعطاف.و لم تعد عمليّة التسوّل مجرد طلب حسنة ومد اليد للغير، بل تطوّرت في الأيّام الأخيرة لتصبح ''وظيفة'' ومهنة تتطلّب حرفيّة عالية وإتقان جيّد للدور الذي يتقمّصه المتسوّل، إضافة إلى حسن اختيار توقيت ممارسة هذه المهنة والمكان المميّز، وأحيانا الضحية المناسبة، خاصة بالنسبة لمن يعتمد على التحيّل في ذلك. وعادة ما ترتبط هذه التقنيات بخصائص المتسوّل ذاته مثل الجنس والفئة العمريّة، فالذكور منهم يعتمد عادة على تقمّص دور المحتاج الظرفي أو المعاق ليتمكن من كسب عطف ضحيته، في حين تتقمّص الإناث منهم دور الأم الحنون على أبنائها والعاجزة على توفير قوتهم. كما تتغيّر عبارات التسوّل حسب الفئة العمريّة التي ينتمي إليها المتسوّل. كما ترتبط تقنيات التسوّل حسب خصائص المكان الذي يتواجد فيه.ويبدو ان التسول قد خرج من دائرة الاحتراف والمهارة الفرديّة إلى ما يمكن أن نسمّيه بالعمل التنظيمي والمؤسساتي. فقد اشار عدد من المتسولين الى ان مسؤولين وموظفين حكوميين يقومون بالإشراف على بعض المتسوّلين،لتصبح ظاهرة التسول عمل مؤسساتي، تديرها شركات مختصّة في التسوّل، توفّر لهم الحماية وتوزّعهم على المناطق وتؤمن لهم التنقّل. فهل يمكن ان تتدخل السلطة لتوقف نزيف الظاهرة ولتضع حدا للمتاجرين بالبشر والمستغلين للفقر،الطامعين في تكوين ثروات عبر التحيل والاستغلال؟
أرسل تعليقك