وقف الطفل تيمون كميس، البالغ من العمر 10 أعوام، رافعًا يده إلى جبينه، مؤديًا التحية العسكرية، لجذب الانتباه على عتبة خيمة تضم عائلته المكونة من والدته "انيا" وأخوته الستة، داخل أحد المخيمات المترامية الأطراف التابعة للأمم المتحدة "ملكال"، شمال البلاد، حيث قتل عشرات الآلاف من سكان جنوب السودان في ثلاثة أعوام، من إراقة الدماء في أحدث دولة في العالم، والتي اكتسبت استقلالها عام 2011، بعد أطول حرب أهلية في أفريقيا.
وأعربت أنيا والدة الطفل تيمون، البالغة من العمر 35عامًا، عن يأسها من حياة المخيم، وتقطن مع عائلات أخرى فيما يحصلون على حصص ضئيلة من المعونات مع ارتفاع معدل الأمراض النفسية، وزيادة معدلات الانتحار بين الأطفال، قائلة "لا يزال الناس يتحدثون عن السلام، ولكن لا أعتقد أنه سيأتي قريبًا، وبعد ثلاثة أعوام من الانتظار هنا علينا أن نغادر".
واندلع قتال بين الجماعات العرقية المختلفة في المخيم العام الماضي، وهذه ليست المرة الأولى التي يشهد فيها المخيم أعمال عنف. ويتذكر الطفل "تيمون" بوضوح القتال الذي اندلع حولهم ودفعهم إلى التخلي عن 10 أبقار، تملكها عائلته لينجو من الصراع العنيف، حول "ملكال" عاصمة منطقة أعالي النيل المنتجة للنفط، وتذكر تيمون اندلاع القتال داخل المخيم في الممرات الضيقة واستخدام السكاكين والبنادق والقنابل اليدوية، وكيف تجمعت الأسرة معًا وسط مخاوف والدته من تعرضه لخطر التجنيد، من قبّل القوات المسلحة الحكومية أو الميليشيات التي جندت ما يقرب من 16,000 من الأطفال منذ بدء الصراع في عام 2013.
وحذّرت لجنة تابعة لمنظمة "الأمم المتحدة لحقوق الإنسان" من التطهير العرقي، الذي ينطوي على مجازر وتجويع واغتصاب جماعي مع الخوف من تكرار سيناريو الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، وعقدت يوم الأربعاء جلسة طارئة لمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة ودعت إلى تحرك سريع لتفادي الكارثة.
ودعت ياسمين سوكا، رئيسة اللجنة، إلى الإسراع بنشر قوة حماية قوامها 4000 فرد، وتشكيل محكمة جديدة لمحاكمة مرتكبي هذه الفظائع، وأكدت ياسين أن "جنوب السودان يقف على شفا حرب أهلية عرقية شاملة، مما قد يزعزع استقرار المنطقة بأسرها". وحرص دبلوماسيون في العاصمة جوبا على الامتناع عن استخدام مصطلح "الإبادة الجماعية" في وصف الأزمة، لكنهم أشاروا إلى عدد من العوامل التي دقت ناقوس الخطر مثل استمرار الحشد للقوات الحكومية والميليشيات الموالية للرئيس سلفا كير، وكان "كير" منذ ديسمبر/ كانون الأول 2013 المقاتل المستقل السابق على خلاف مع نائب الرئيس الأسبق رياك مشار، واتهم "كير" المنتمي إلى "الدينكا" نائبه السابق "مشار" من قبيلة النوير بالتآمر للقيام بانقلاب، وتقسيم البلاد على أسس طائفية، وعاد مشار إلى جوبا في أبريل/ نيسان للانضمام إلى حكومة وحدة وطنية، لإنهاء الأعمال العدائية بينهما ولكن الصراع تجدد في وقت لاحق في فصل الصيف.
واتسعت رقعة النزاع بين الأطراف المتحاربة، لتمتد إلى الولايات الجنوبية الاستوائية وفقا للولايات المتحدة، التي أوضحت أن لديها "معلومات موثقة" بأن الحكومة في جنوب السودان تستهدف المدنيين، وتستعد لهجمات وشيكة على نطاق واسع على خلفية موسم الجفاف. وقالت السفيرة الأميركية ماري كاثرين، "بالنظر إلى الحرب الدائرة هنا واستخدام المدنيين كأهداف مشروعة، فنحن قلقون من احتمال وقوع فظائع جماعية إذا تم استئناف الهجمات"، وأعرب بان كي مون، الأمين العام للأمم المتحدة عن قلقه، داعيًا مجلس الأمن الدولي إلى اتخاذ إجراءات عقابية، الجمعة، قائلًا "إن قادة البلاد خانوا ثقة الناس بهم، وأهدروا اتفاق السلام وتسببوا في مقتل عشرات الآلاف".
واتُهمت قوات مشار وعدة جماعات مسلحة أخرى، تدعمها بانتهاك حقوق الإنسان"، فيما تم الاعتراض على محاولة أميركا تنفيذ حظر على توريد الأسلحة، وإقرار عقوبات من قبل مجلس الأمن الدولي، لكنها بقيت خيارًا مطروحًا، ونفى "كير" بشدة مزاعم التطهير العرقي، واتهم ممثلو الحكومة بتلفيق مزاعم حول الحشود العسكرية لا أساس لها.
وكشف الجنرال "بول مالونج أوان" رئيس أركان الجيش الشعبي، لتحرير السودان الأسبوع الماضي، قائلً: "جنوب السودان دولة ذات سيادة ولها الحق والقدرة على حماية مواطنيها، ولذلك فإنه يجب التعامل مع كل المعتدين الداخليين والخارجيين، للحفاظ على القانون والنظام في البلاد". ودقت منظمات الإغاثة والمنظمات الإنسانية ناقوس الخطر، بعد تزايد الخسائر البشرية المتزايدة جراء هذه الأزمة التي دفعت أكثر من مليون من سكان جنوب السودان الذين يقدر عددهم بنحو 12 مليون إلى النزوح إلى دول مجاورة، مثل "أوغندا" التي تستضيف وحدها ألان أكثر من 450,000 مواطن من جنوب السودان.
ويعتقد ماهيمبو مدوي ممثل اليونيسيف في جنوب السودان، أن مزيج من الصراع وارتفاع مستويات سوء التغذية والأزمة الاقتصادية والتضخم بنسبة 830% خلق عاصفة كاملة من التدهور، وأضاف مدوي "نشعر بالقلق من المستويات المرتفعة من سوء التغذية وحماية الأطفال والعنف القائم على نوع الجنس، ولكن أولويتي هي منطقة شمال بحر الغزال، حيث تبلغ مستويات سوء التغذية أقصاها". وأوضح مدوي أن الهدف السنوي لليونيسيف زاد في جميع أنحاء البلاد لعلاج الأطفال من سوء التغذية الحاد هذا العام، حيث زاد العدد الذي تستهدفه المنظمة من 166.222 ألفًا إلى 360 ألفًا لمن تقل أعمارهم عن 5 أعوام، وفي حين لم تمس منطقة بحر الغزال من القتال الأخير، إلا أن مدوي يعتقد أن أزمة الغذاء تدهورت إلى حد كبير دفع اللاجئين إلى اتخاذ طريقهم إلى دارفور، والتي كانت مسحرًا للتحذيرات من مجاعة عام 2004، وتابع مدوي "في الوقت الراهن تعاين المنطقة من سوء التغذية، بمستويات كارثية وإن لم يتم التدخل ستنزلق المنطقة إلى مجاعة".
وتابعت السيدة" داغبان"، التي تنتمي إلى جماعة الشلك العرقية في مخيم ملكال، "الله وحده يعلم كيف سيتغير هذا الوضع"، وتقول داغبان أن حفيدها كميس يشاهدها من حافة سريره وعينه محتقنه بالدماء، وقُتل والده في الاشتباك بين القوات الحكومية والمعارضة عام 2014، فيما تركت الوالدة أطفالها الثلاثة وظلت مع القوات لتعمل كطاهية، وتضيف الجدة "نحن عالقون هنا وإلا لكنا ذهبنا إلى مخيم آخر في بلد مجاور"، وتوضح الجدة أنها أحيانا تخاطر بأمنها مع مجموعة من النساء ويخرجن خارج المخيم لجمع الحطب أو يغامرن في السوق على بعد بضعة كيلو مترات في ملكال، التي كانت مسرحًا للقتال، ولكن تسيطر عليها القوات الحكومية حاليا، وتقول الجدة بشأن كيف كان الصراع بالمقارنة بعقدين من القتال الذي سبق استقلال جنوب السودان "تجاوزت هذه الحرب كل التوقعات، فعندما كنا نتقاتل مع العرب كنا ندخر النساء والأطفال ولكن الأن يقتل الجميع حتى المكفوفين والمجانين، إنهم يقتلون الجميع، الأمر أسوأ من ذي قبل".
أرسل تعليقك