أقدم مسلحان على اغتيال الأكاديمي الفلسطيني فادي البطش، أثناء توجهه إلى الصلاة في منطقة سكنه في العاصمة الماليزية كوالالمبور.
وكان البطش ,وهو من مواليد مخيم جباليا للاجئين في غزة، تحت ملاحقة مستمرة لأشهر طويلة، من دون أن يشعر بذلك في كل المناطق التي أدار فيها حياته ..
وأكّدت مصادر التحقيق في ماليزيا، أن الاغتيال نفذ بعد قليل من الساعة السادسة صباحًا، عندما أُطلقت النار على البطش في مدخل المسجد في حي جلان جومبك في العاصمة الماليزية، حيث سكن في السنوات الاخيرة.
وروى شهود عيان بان "رجلين أبيضين" وصلا إلى الساحة على دراجة نارية ثقيلة من طراز "بي.ام.في"، انتظرا في المكان نحو 20 دقيقة إلى أن وصل البطش إلى المسجد، حيث يعمل إماماً، وعندها أطلقا عليه 10 رصاصات من مسافة صفر في الرأس والصدر، وفرّا المغتالان من المكان من دون ترك آثار, ورغم التقارير بأنهما وُثّقا من خلال كاميرا فإن الخوف من أن يصل أحد ما إلى المشبوهين اللذين كانا يعتمران خوذتين، قليل.
وأعلن نائب رئيس وزراء ماليزيا،أن محققي الشرطة يفحصون إمكانية ان يكون "عملاء أجانب" هم الضالعون في الأمر، وقال "يمكن أن تكون للتصفية صلة بأجهزة استخبارات أجنبية".
وطرحت مصادر التحقيق في ماليزيا في البداية إمكانية أن يكون تنظيم "داعش" هو من قام بالاغتيال، ولكن ادعى زعيم "حماس" في غزة، إسماعيل هنية،أن إسرائيل هي المسؤولة.
وقالت معلومات استخبارية، إن البطش تجند للذراع العسكرية لـ"حماس" قبل أن يسافر للتعلم والتعليم في كوالالمبور في العام 2011,والتقدير هو أنه أرسل إلى ماليزيا، على ما يبدو بتكليف من "حماس"، لتعميق عمله في مجالات الهندسة الكهربائية والإلكترونية. و استخدمته "حماس" في مهام مشتريات مختلفة لعتاد متطور في مجالين أساسيين وهما الصواريخ والطائرات المسيرة.
وذلك مع التشديد على عناصر في المجالات الالكتروبصرية، التي تستخدمها "حماس". وفي السنة الاخيرة بدأ البطش يعمل أيضا في البحث والتطور.
وأضافت أن نشاطه البحثي، الذي كان يتم ضمن أماكن أخرى في مختبرات جامعة محلية، هو جزء من فكرة أوسع لـ"حماس" تستهدف توزيع مراكز البحث والتطوير الخاصة بها على أوسع نطاق، ونقلها خارج قطاع غزة والضفة الغربية.
وتفعل المنظمة ذلك لأسباب عدة أولا: الابتعاد عن اسرائيل واذرعها الاستخبارية. ثانيا: الابتعاد عن طائرات سلاح الجو. ثالثا: وضع رجال "حماس" ذوي العلم في مناطق يمكنهم فيها بسهولة اكبر – بالنسبة لغزة على الاقل – اكتساب العلم واثراء انفسهم بالعلم المتطور والتعليم.
رابعًا: وضعهم في اماكن يكون من السهل عليهم فيها شراء مواد خام وأجهزة لعملهم.
وكان أساس عمل البطش في مجالات البحث والتطوير للقدرات الإلكتروبصرية الجديدة لتحسين مستوى دقة الصواريخ، وكذا تحسين أجهزة التوجيه والتحكم من بعيد للطائرات المسيرة.
يبدو أن ايران ليست ضالعة مباشرة في هذا النشاط، ولكنها هي الممول الاساس اليوم للذراع العسكرية لـ"حماس"، وتضخ له ميزانية بلغت في السنة الاخيرة نحو 40 مليون دولار.
وتعد عملية اغتيال البطش عمليًا الطرف المكشوف والصاخب لجهد استخباري على مستوى العالم، يشارك على ما يبدو فيه عشرات عديدة، وربما اكثر، من رجال استخبارات من مهن وخبرات مختلفة لا تحصى، ممن شخصوه كـ"خطر واضح وفوري"، يبرر، من ناحية عملياتية، استخبارية، وقانونية بل اخلاقية – اتخاذ مثل هذه الخطوة الحادة.
اذا كانت إسرائيل هي التي تقف بالفعل خلف التصفية، فان إصابة هدف بعيد خلف البحر تعود لفكرة قتالية اوسع في مركزها: التصميم على المس بوحدات البحث والتطوير لـ"حماس"، حتى لو كانت بعيدة، في مرحلتها الجنينية، قبل أن تنجح في تطوير القدرات العملياتية.
"المعركة هي اسم اللعبة. مهمتنا نزع قدرات استراتيجية من الاعداء من شأنها ان تمس بالمستقبل وبسلامة مواطني دولة اسرائيل. عند الحاجة يجب المس بالاعداء انفسهم ولكن فقط حين يكون الامر جزءا من الفكرة التي تتضمن وسائل عديدة".
هكذا وصف الامر في الماضي رئيس "الموساد"، يوسي كوهين، بل انه اقتبس غير مرة قول رئيس "الموساد" الاسبق، مائير داغان، عن "سلسلة اعمال سرية مركزة ستؤدي الى تغيير الواقع الاستراتيجي".
وتابعت "في حالة أن "الموساد" بالفعل هو الذي يقف خلف الاغتيال، فلا بد أن يكون كوهين ورجاله عرضوا على رئيس الوزراء نتنياهو (الذي يذكر انه تكبد في عهد داني ياتوم ومائير داغان في رئاسة "الموساد" خيبات أمل من التصفيات في الخارج) خطة أقنعته، من حيث التنفيذ ولا يقل اهمية عن ذلك من حيث فرار المغتالين دون ترك أثر.
العلاقة التركية
يمكن أن نرى التصفية في ماليزيا استمرارًا مباشرًا لأعمال مختلفة نسبت في السنتين الأخيرتين لاسرائيل في كفاحها المتعاظم لتهديد الطائرات المسيرة لـ"حماس". ففي كانون الأول/ديسمبر 2016 صفي في تونس مهندس الطيران، محمد الزواري، نشيط "عز الدين القسام" الذي عني بتطوير "الطائرات المسيرة الانتحارية" وأخطر من ذلك؛ في تطوير وسائل إبحار انتحارية، كان يفترض أن تمس بطوافات الغاز الإسرائيلية في البحر المتوسط.
وتتخذ العملية في تونس صورة التجسس بمعناه الكلاسيكي، إذ أنه في تعقيداتها، استخباريا أم عملياتيا، تذكر بقصص تجسس جون لا كارا. حتى اليوم بالمناسبة، تتساءل السلطات في تونس ما الذي حصل هناك بالضبط وبالاساس: من يقف خلف الاغتيال للزواري في وضح النهار.
ووجد مسؤول "حماس" الكبير في لبنان، محمد أبو حمزة حمدان، نفسه هو الآخر على بؤرة الاستهداف في كانون الثاني الماضي/يناير عندما انفجرت عبوة ناسفة في سيارته في مدينة صيدا ,مما تسببت في إصابته
وتمت محاولة الاغتيال ضد زعيم "حماس" في صيدا رفم أنف "حزب الله" ومن دون معرفته، حيث لم يكن على ما يبدو يقظًا لمحاولات "حماس" إقامة بنية تحتية في لبنان لتطوير وانتاج الوسائل القتالية المتطورة. بالإضافة إلى ذلك، اضطر سلاح الجو أن يعترض مرات عديدة طائرات مسيرة اطلقتها "حماس" من فوق البحر المتوسط.
ويعد هدف لا يقل أهمية لفهم ما حصل في ماليزيا هو تركيا على خلفية العلاقات المتوترة بين القدس وأنقرة في السنوات الأخيرة، فإن إسرائيل تحذر المرة تلو الاخرى الاتراك من نشاط "حماس" في أراضيهم – بما في ذلك قياداتها في اسطنبول – ولكن هؤلاء لا يسارعون الى العمل، على أقل تقدير.
فعملية جريئة مثل تصفية البطش في ساحة على هذا البعد، وأمام جهة أغلب الظن كانت تعرف أنه يوجد تحت التهديد بل في منطقة مليئة بالكاميرات والاجهزة البيومترية، هي خطيرة جدا وواجبة التنفيذ فقط ضد هدف قيم – هدف من الواضح أن إزالته عن لوحة اللعب ستلحق ضررًا مهماً بالخصم.
كما أن ثمة قيمة رمزية للعملية ,ليس أقل أهمية من مجرد تعطيل الهدف – في هذه الحالة مهندس يساعد منظمة "ارهابية" – هي الرسالة التي تنطوي على التصفية المنسوبة لاسرائيل. وبموجبها: يا اعداء الدولة كلكم، كائنا من كنتم، ستجدكم اسرائيل وتقتلكم.
على مدى السنين خلقت عمليات من هذا النوع أسطورة حول الذراع الطويلة ـ "الموساد".
ولحظات الخلل العملياتية عظمت فقط السمعة التي خرجت له كهجومي وعديم الرحمة. وهذا انجاز لا بأس به، ولا سيما لجهاز استخبارات يقف هدف الردع امام ناظريه بقدر لا يقل عن هدف الوقاية.
أرسل تعليقك