«عم نبكي دم». تقول امرأة تجلس إلى جواري في الباص الذي يقل الزائرين من البوابة الرئيسية إلى داخل سجن رومية المركزي، شرق بيروت.
أسألها عن السبب، تجيب: «ابني موقوف بتهمة سرقة دراجة نارية منذ أكثر من سنة ولم تتم محاكمته حتى الآن. عاشر أولاد السوء لكنه لم يسرق. كان برفقة السارق. هذا ذنبه».
رفيقتها في الباص تحمل طفلها الذي لا يتجاوز العامين، تلاعبه وتضحك وكأنها في رحلة سياحية. تقول: «زوجي مسجون. وفي كل زيارة أصطحب أحد الأولاد ليراه. هم بالكاد يعرفون والدهم، فهو ما أن يخرج من السجن حتى يعود. أصبح مشهوراً. وأنا أنجبت أولادي السبعة على باب السجن».
تقول إحدى الأمهات: «لا أحد يخرج من السجن إلا ويعود إليه. في الداخل عصابات تدرب الوافدين الجدد». وتضيف أن «ابنها الملتحق بالسلك العسكري، حصل على حكم براءة وإخلاء سبيل، بعد توقيف استمر سنة ونصف. عايش الويلات خلالها. فقد نصف وزنه. وتعرض لمضايقات لا تحتمل من نزلاء مجرمين بكل ما للكلمة من معنى. ضبط مجموعة تتعاطى المخدرات وسعى إلى إلقاء القبض على أفرادها. والد أحدهم كان نافذاً، وحتى يحمي ابنه لفّق تهمة لابني. واليوم ظهرت براءته وسوف يعود إلى عمله».
حكايات أهالي السجناء في محيط السجن، تعكس ما يجري داخله. فالجولة الميدانية، كما تمت الموافقة عليها، تمنع الحديث مع السجناء. لكن الميدان يبدأ من خارج البوابة. هناك الغلبة للنساء اللواتي يزرن رجالهن، أزواجاً وأبناء وآباء وأشقاء وحتى أحبة ينتظرون الفرج ليجتمعوا.
تلك هي حال صبية، تنتظر في الدكان المواجه للباحة الرئيسية، تقول لـ«الشرق الأوسط» إن «حبيبها يمكن أن يطلق سراحه اليوم وهي بانتظار الخبر اليقين». تعقب زميلة لها في الانتظار: «سوف تعقد خطوبتها عليه ما أن يغادر هذه البوابة، فقد ارتبطا وهو في السجن».
نسأل النسوة عن سبب غلبة النساء على الرجال في محيط السجن الخارجي، تجيب إحداهن: «لأن هذه الدولة لم تترك للرجال إلا مخالفة القانون لتحصيل رزقهم».
المنتقبات من زائرات السجن لا يختلطن بغيرهن، ينعزلن مع أطفالهن. ويرفضن الإجابة على الأسئلة، تقول إحداهن وهي تحضن ابنها: «يكفي ما نعانيه. شقيقي موقوف منذ سنوات ولم يحاكم. أحياناً ننتظر ساعات، لا يسمحون لنا بمقابلته. أكثر من ذلك فرضوا علينا رسم زيارة خارج المواعيد المقررة. وأنا بالكاد أستطيع تأمين تكاليف الحضور من آخر الدنيا لأطمئن على شقيقي. حتى الشكوى لم تعد تفيد أو تريح».
وينتقد مسؤول في قوى الأمن الداخلي لـ«الشرق الأوسط»، «الضريبة المستجدة على زيارات أهالي السجناء في غير المواعيد المحددة». يقول إن «فرض ضريبة ألف ليرة على أهالي السجناء المعدمين بغالبيتهم هي بدعة تخالف مبدأ أخلاقياً». ورغم فقرهن، فإن زائرات رومية يحرصن على تأمين رصيد في «الحانوت»، وهو دكان يودع فيه أهالي السجناء المال ليشتري منه السجين ما يأكله عندما لا يعجبه طعام السجن. ويؤكد المسؤول أن «طعام السجن جيد وصحي. ويأكل منه الجميع، من ضباط وعناصر وسجناء. لكن بعض السجناء مصابون بالبطر، وهم لعنة على أهلهم الفقراء الذين يستدينون ويأتون تحت المطر ليشتروا لهم طعاماً».
لكن حديث النسوة يكشف معاناة أقربائهن المكدسين في الزنازين الضيقة والرطبة. يعدون الأيام المتبقية لهم لإنهاء محكوميتهم. لأنهم لا يستطيعون القيام بما يشغلهم. والأصعب أنهم لا يجدون إلى النوم سبيلاً لضيق المكان. يقول أحد الذين قضوا فترة عقوبة في السجن لـ«الشرق الأوسط»: «نعتمد أسلوب السكين عندما ننام، فنتمدد على جانبنا وغالباً ما تكون الأرجل مقابل الرؤوس، ونادراً ما نغمض أعيننا».
وتقول المعالجة النفسية في سجن رومية، الدكتورة ميراي ميلاد نصر الله، إن «سجوننا ليست مثالية لتستقبل هذا العدد من السجناء. وشئنا أم أبينا، العاملون في السجون ليسوا مدربين للعمل في هذا المجال». وتضيف: «الفراغ الفكري والعاطفي يجعل السجناء أسرى لتردد الأفكار السيئة بشكل مستمر في رؤوسهم. وانعدام وسائل النشاط يدفعهم إلى الغرق في اليأس والعدوانية. المطلوب تأمين العلاج الانشغالي عوضاً عن الفراغ في بيئة صعبة. فأفكارهم تدور في حلقة موبوءة. كما أنهم وبسبب الاكتظاظ لا يتمكنون من النوم. أغلبهم مصابون بالأرق». وتوضح: «مساعدة السجناء لتأمين ما أمكن من الاستقرار النفسي تحتاج إلى إجراءات عملية، منها فصل السجناء عن بعضهم بعضاً، ليس وفق الوضع القانوني فحسب، بل وفق خلفياتهم وأوضاعهم النفسية وبحسب احتمالات تأثرهم ببعضهم، فلا يوضع من سجن أو أوقف لإصداره شيكاً من دون رصيد مع من ارتكب جريمة قتل، أو مع سارق أو مزور أو مروج للمخدرات. كذلك يجب تأمين الاتصال بالأهل، وتنظيم النشاطات الرياضية والهوايات الحرفية ومزاولة الفنون حتى لا تتطور حالتهم الإجرامية».
وتؤكد نصر الله أن «إدارة السجن لا توفر وسيلة لتقديم ما تقدر عليه لمساعدة السجناء عندما أرفع إليها تقارير بشأن أوضاعهم وفق اختصاصي. لكن ماذا يمكن أن نقدم لسجناء لا مكان لديهم ليناموا بشكل مقبول؟ الأزمة تتخطى الجميع». وأصعب ما يواجه السجين، كما تقول نصر الله، هو «انفضاض الناس من حوله. تضيق دائرة الأصحاب ثم تنعدم، تتقلص علاقته بالعالم الخارجي، لتبقى النساء من أقربائه الأكثر تفرغاً لزيارته، وتحديداً الأم، فيعود السجين إلى علاقته الأولية معها. ولأن غالبية السجناء من بيئات فقيرة، والنساء في هذه البيئة لا يعملن، فيتكبدن عناء الزيارات وبعضهن يكابدن ليأتين من مناطق بعيدة للاطمئنان إلى السجين أباً كان أو شقيقاً أو زوجاً».
ويقول الخبير في القانون الدستوري والحريات العامة، المحامي ربيع الشاعر لـ«الشرق الأوسط»: «أثناء تسلم الوزير زياد بارود حقيبة الداخلية قبل تسع سنوات طرح مشروعاً متكاملاً لبناء سجنين مركزيين. الأول في الجنوب والثاني في الشمال. ووجد الأراضي المناسبة لذلك في مشاعات الدولة. لكن في الجنوب وضع أحد المدعومين من مرجعية كبرى يده على الأرض وأنشأ فيها مدرسة ودارة سكن له. وطوي الملف برمته».
ويضيف أن «المعالجة داخل السجون تتطلب تحويلها إلى أماكن للتأهيل والإصلاح، وليس فقط للعقاب. وهذا يبدأ من خلال تمكين السجناء من الاطلاع على حقوقهم، ومنحهم الحق في تقديم الشكاوى إذا انتهكت هذه الحقوق. هذا بالإضافة إلى الحق في الغذاء الصحي والنظافة والراحة والحق بالعناية الطبية والتربية البدنية والمعرفة والتعليم وفي الزيارات والعمل والمراسلة والخلوة الشرعية وغيرها... والأهم تأهيل السجين على إعادة اندماجه في المجتمع قبل فترة من خروجه من السجن».
وقد يهمك ايضا
الفنان البناني زين العمر يتعرض لحادث خطير
الرئيس عون يؤكّد التزام لبنان بالدفاع عن القدس والأرض الفلسطينية
أرسل تعليقك