طنجة - و.م.ع
وقع المخرج المغربي كمال كمال فيلما جديدا بعنوان "الصوت الخفي"، لم يتردد العديد من ضيوف المهرجان الوطني للفيلم بطنجة، في وصفه بالرائعة السينمائية التي ستجد مكانا لها ضمن جواهر الفن السابع الوطني.
وتحول الفضاء الخارجي للقاعة التي تحتضن عروض المسابقة الرسمية للدورة 15، إلى حلقات نقاش احتفت بتميز وإبداعية عمل صفق له طويلا، الحضور الذي تشكل أساسا من مهنيين ونقاد وإعلاميين فضلا عن الضيوف الأجانب.
كتابة سينمائية بالغة الإتقان، فضاءات تصوير فاتنة، إدارة ممثلين ناجحة، وتعددية لغات فنية تعايشت لتنتج نصا بصريا غنيا تتجاور وتتناغم فيه الرواية مع الموسيقى وتشكيلية الإطار.
يرفع كمال كمال في "الصوت الخفي" تحديا جريئا، باختياره لقصة مركبة، متناسلة الأبعاد، تستنطق الواقعة التاريخية والأفق السياسي والتأمل الفكري الوجودي العميق في قضايا الإنسان في مواجهة الألم والحب والحرب وغيرها.
حكاية في متن الحكاية. يرسي كمال كمال الذي كتب أيضا السيناريو، عتبة الوحدة السردية الأساسية التي تقع على الحدود المغربية الجزائرية أيام الثورة ضد الاستعمار الفرنسي، بحكاية شيخ جزائري، حسن، (الممثل الجزائري خالد بنعيسى) يرويها سيرة متأخرة لموسيقية شابة (جيهان كمال) تعرضت لاعتداء نجم عنه جرح مزدوج: ندوب على وجهها، وكسور صعبة الترميم في كمانها.
يتوازى انكباب الشيخ على ترميم الكمان قطعة قطعة مع نوافذ فلاش باك تعود إلى ذروة حرب التحرير الجزائرية. على خط موريس الحدودي، يحاول المغربي موسى (محمد بسطاوي) تهريب مجموعة جزائرية فارة من مطاردة السلطات الفرنسية إلى داخل التراب المغربي. حسن كان هناك، يقود مجموعة من الصم والبكم قتلت فرنسيا دأب على اغتصاب فتاة من نزلاء الملجأ الذي كان يديره، إلى جانب آخرين، تحت قيادة سبايسي (محمد خيي)، المقاتل الذي يأتمر بأمر قواد الثورة.
على غرار "السامفونية المغربية"، تحضر الموسيقى بقوة، ليست كتنويع فني على هامش الحكاية الرئيسة، بل كنص متواز بكل مقوماته التعبيرية. إذ يستعيد حسن حكاية الرحلة الحدودية الشاقة في أرض مزروعة بالألغام، وتحت مرمى النيران، فإنه يستحضر أيضا عشقه للموسيقى ولعالم الأوبرا الساحر، من خلال مشاهد أوبرالية تكتب مسيرة العنفوان والمأساة والألم والتحرر.
الحكاية ترمم الجرح بلعبة الاستعارة. إذ يعيد حسن تشكيل قطع الكمان، فإنه كما لو يعيد، في خريف عمره، جمع شظايا حكايته المثيرة مع الثورة التي قادته إلى السجن أعواما طويلة، وإذ تنصت الشابة إلى الحكاية فلتذيب جروحا على الجسد في جروح وجودية يحملها الكائن في معترك الحياة والموت.
يحقق كمال كمال التوازن الصعب بين نص مشبع بالتأملات العميقة في التاريخ والشرط الإنساني وقيم المقاومة من أجل الحياة، ونص جمالي مطرز بألوان الصمت والموسيقى والعبور الخلاق للزمن. يبدع في خلق تمايز في الشخصيات بشكل وظيفي متكامل يعطي لوحة إنسانية متنوعة، بين دوغمائية ثورية تفضي إلى الهلاك عند اسبايسي، وعقلانية السعي الى البقاء من أجل الفعل في الحياة عند حسن ومجموعة الصم والبكم التي تنصت إلى الصوت الخفي الذي قد يتجاهله الآخرون.
وقد صاحب تنويع كمال كمال لهويات شخصياته إدارة فنية واضحة المعالم، أتاحت استثمارا خلاقا للمواهب التمثيلية لثلة من أفضل نجوم السينما في المغرب، ضمت، فضلا عن الأسماء المذكورة سلفا، أمال عيوش ومحمد الشوبي ويونس ميكري ورفيق بوبكر وحميد نجاح.
"الصوت الخفي" تحفة سينمائية تفسح باب اليقين في قدرة السينما المغربية على إفراز أعمال تجمع بين الأصالة الفنية والتجديد الإبداعي وإمكانية تشكيل أفق واسع للتفاعل الوجداني والذهني الجماعي مع سينما تحترم قيمها.
أرسل تعليقك