تونس- تونس اليوم
بين العقل والجنون خيط رفيع يتماهى مع الخيط الفاصل بين الموت والحياة، بين المعقول واللامعقول هوة غير مرئية كذلك الهوة بين الفرح والترح،وبين الثنائيات التي يعيشها الانسان ويصارعها لأجل البقاء تكون الرحلة المسرحية التي تنحتها اجساد الممثلين وحركاتهم على الركح ليغوصوا في عوالم اوجين يونسكو بقراءة تونسية لنص مسرحي عالمي في اول انتاجات مركز الفنون الركحية والدرامية بنزرت تحت ادراة جميلة التليلي.«كلوستروفوبيا» (رهاب الاماكن المغلقة) نص و إخراج محمد أمين الزواوي و تمثيل أوس إبراهيم وطارق الوسلاتي ولطفي التركي ومروان المرنيصي وأسامة الشيخاوي ومحمد أمين الزواوي وآمال العويني مؤثرات صوتية إسكندر السلطاني وموظب عام شكري الجوادي و مساعد توضيب سيف الدين الأديب وسينوغرافيا محمد أمين الزواوي وإضاءة أمين الشورابي تصميم المعلقة منجي اللملومي وقد استفاد المخرج من تجربته في مسرح السجون لمعرفة عوالم السجن وخباياه وشخصياته لتقديم عمل صادق ومتجانس.
تمازج مقومات السينوغرافيا لتقديم عمل نقدي
المسرح فعل مجنون، وجنون الممثل على الركح تفصيلة في العملية الإبداعية، على ركح دار الثقافة الشيخ ادريس ببنزرت يتشارك الممثلون ساعة من الجنون «هبلة» مسرحية ناقدة وممتعة، على الركح اجتمع ممثلون من اعمار مختلفة امنوا بالمسرح وقدرته على التغيير، تشاركوا الفكرة وآمنوا بها ليقدموا عرضا مسرحيا متكاملا.
«كلوستروفوبيا» هو عنوان المسرحية وهو «رهاب الاماكن المغلقة»، ومنذ المعلقة التي ابدع في صياغتها منجي اللملومي تكون الرحلة الى الاماكن المغلقة وأولها الذاكرة والذكريات، فالإنسان كثيرا ما يخفي ذكريات عن نفسه يريد نسيانها ليصل حدّ التقوقع والجنون، المكان في المسرحية امنكنة بعضها واقعي مثل الزنزانة واخر متخيل «المنزل» و «المطار» و «الشارع»، كل الامكنة تسكن الشخصيات وتحبسهم في حيز مكاني معين منه يستلهمون التفاصيل الموجعة التي يحولها الممثلون الى لحظات شبق مسرحي.
اللعبة تبدأ من داخل القاعة، مجموعة من الفوانيس وأجساد تتحرك بسرعة وأصوات لضوضاء وكأنهم يبحثون عن سرّ ما او يريدون كشف حقيقة مخفية، قبل ان تهدأ الاصوات وتتحول الاجساد الى الركح، الضوء تيمة ابداعية اساسية فهو الذي يقسم الفضاء المكاني الى اروقة مختلفة، كل رواق هو عبارة عن منفذ او باب للأحداث ووسيلة للدخول في ذاكرة الشخصية، الاضاءة ايضا وسيلة للتقسيم الزمني في المسرحية، فالاضاءة الخافتة تشير الى فعل الماضي والاستحضار أما الضوء الابيض الناصع فهو عنوان الان والراهن و الاضاءة البنفسجية تحيل الى المتخيّل وما تحلم به الشخصية من نجاح في الحب و الحلم، الاضاءة تيمة ابداعية ومطية زمنية اعتمدها المخرج في عمله وأتقن توزيعها امين الشورابي.
الموسيقى تصاحب الفعل المسرحي وتكون رديفا لحركات الشخصيات، الموسيقى كما المرآة منها يعرف المتفرج خفايا الشخصية واوجاعها، الموسيقى في المسرحية تغوص في باطن الشخصية ولاوعيهاـ تنقل المتناقضات الكثيرة التي يعيشها الانسان فهي عنوان للخوف والفرح و الحب والشبق و الجبن، كل المشاعر الانسانية المتختلفة والمتضادة تنقل الى جمهور «كلستروفوبيا» من خلال الموسيقى، الموسيقى من نقاط القوة في العمل تمتزج مع حركات الشخصيات، تكون نصيرها وقت الضعف و القوة ايضا، في المسرحية تتماهى الايقاعات الموسيقية مع الصراعات الكثيرة التي تعرفها الشخصيات، صراع لاجل الحقيقة وآخر لاجل وثائق مخفية وثالث لأجل الحب ورابع لأجل الكرامة، صراعات وتناحر يعيشها الانسان منذ الازل.
أداء الممثلين: عماد للحقيقة والنجاح
يتفنن الممثلون شخصياتهم جيدا، يعرفون متى تتشابك الشخصية مع الشخص ومتى تنفصل عنها، الممثلين العماد الاساسي لنجاح العمل المسرحي وفي «كلوستروفوبيا» كان الممثلين عماد حقيقي للنجاح، لكل ممثل طريقته الخاصة في التقمص والتعبير عن وجع الشخصية وطريقة تقديمها لكنهم يتشاركون الصدق في الاداء حد التماهي المطلق مع النص المنطوق والحركة، البطل الرئيسي للمسرحية يعيش في غرفة او زنزانة تشبه كثيرا ذاكرته المجوفة وذكرياته المتشظية، شخصية تعيش ازمة نفسية يلحظها المتفرج ويتقن اوس ابراهيم نقلها الى جمهور المسرحية، شخصية مركبة ومعقدة تحمل المتفرج الى عوالم البؤس وفي لحظة تعود به الى الواقع وترسم على محياه الابتسامة، اوس طاقة رهيبة على الركح، زاد تمثيلي وشغف بالشخصية، ممثل يتقن شخصياته ويدرسها جيدا يبهر الجمهور ويقنعه كلما صعد على الركح، شخصية الكاتب المريض النفسي العاشق قاتل حبيبته وصاحب المواقف الصارمة و الجريئة، شخصية تتارجح بين العقل والجنون، بين الحكمة وغياب العقل، بين الحب المفرط والدموية القاتلة، تفاصيل كثيرة يتقن الممثل حياكتها وتركيبها لتكون الشخصية متكاملة وأداؤه صادق.
تشاركه التمثيل ممثلة محترفة وراقصة مميزة، امال العويني زوجة الشخصية الرئيسية، تحضر بصيغة الغائب هي طيف يستحضره الرجل المجنون كلما خلا الى نفسه، يراها حقيقة بينما هي طيف لا يشاهد ولايرى، في المسرحية لا تتكلم الشخصية فقط تعبر بالرقص تترك لجسدها الحرية المطلقة لينقل خبايا امرأة عاشقة وزوجة مغدورة ومقتولة، الجسد هو الناطق بوجع الشخصية وأحلامها المؤجلة وافكارها المجهضة، بلباس ابيض تطل الممثلة الراقصة مع تركيز الاضاءة على حركتها لتكون سيدة الركح وكانّ المخرج يخبر جمهوره ان النساء وان غيّبن هنّ سيدات المواقف وربات الافكار وحاضنات الحلم دوما.
في المسرحية يتشارك الشباب متعة المسرح والحلم الجماعي، في العمل لكل ممثل مميزاته وطريقة لعب درامية مختلفة، مروان المرنيصي يضفي على شخصياته جانب كوميدي ليخرجها من تراجيدية مطلقة، وطريقة لعب مختلفة من طارق الوسلاتي واسامة الشيخاوي ليكونوا روحا واحدة واجساد متفرقة على الخشبة.
للتمثيل عوالمه، وللتجربة تاثيرها وحين تتراكم الادوار والشخصيات يكون الاداء صادقا ومميزا، على الركح يتشارك الممثلون الشباب الركح مع قيدوم مسرح الهواة في بنزرت، الممثل لطفي التركي بشخصية المحامي ثم المجنون، اداء صادق ومختلف، اداء ناضج وقياس دقيق للشخصيات، لحركاتها، لطريقة النطق ومتى يرتفع الصوت ومتى يكون هادئا، لطفي
التركي ممثل موهوب وعاشق للمسرح له تجربة مسرحية ممتعة وفي المسرحية كان مميزا، لعب كطفل عاشق وهاو لازال يقبل على الخشبة بشغف كبير، ممثل يقدم شخصياته بعقلية الهاوي (في تونس الممثلين الهواة يلعبون شخصياتهم بحب وشغف اكثر من الممثل المحترف او الاكاديمي ويعتبر مسرح الهواية مسرح جاد)، وفي «كلوستروفوبيا» كانت شخصية المحامي والمجنون عنوان لنضج الممثل وقدرته على تقمص اصعب الادوار
قد يهمك ايضا
انطلاق المهرجان الدولي للمسرح المحترف في دورته الثانية في جندوبة التونسية
افتتاح الدورة 19 لتظاهرة “24 ساعة مسرح دون انقطاع” في الكاف
أرسل تعليقك