هناك قصص حب شهيرة عديدة في التاريخ الأوروبي. نذكر من بينها قصة أبيلار وهيلويز، ودانتي وبياتريس، وبالطبع روميو وجولييت... إلخ. وأما عندنا نحن العرب فهناك قصص لا تقل روعة إن لم تزد: جميل وبثينة، وذو الرمة ومعشوقته مي، مجنون ليلى ما تعذب مثلنا... إلخ. لكن ماذا عن سلفادور دالي؟ هل ذاق طعم الحب؟ إليكم القصة بحذافيرها:في عام 1929 كان الصيف قائظاً جداً. ولذا دعا الرسام أصدقاءه الباريسيين إلى تقضية العطلة الصيفية في قريته الواقعة على الشواطئ الإسبانية؛ حيث السباحة والنسيم المنعش والبحر العريض. ولكن للأسف فإن الضيوف صدموا فور وصولهم بأزمات الضحك الجنونية أو الهستيرية التي كانت تعتري صاحب البيت، بسبب ومن دون سبب. فقد كان يضحك طوال الوقت تقريباً. كان جنونه السريالي أقوى منه. وكانوا يضحكون هم أيضاً فقط لأنه يضحك دون أن يعرفوا السبب. وأحياناً كانوا يخافون ويرتعبون من انفجار ضحكاته المجلجلة.
وفجأة تتغير الأمور عندما وصل الشاعر بول إيلوار وزوجته غالا، تلك الحسناء الروسية ذات الجمال السلافي الأخاذ. لقد وصلا مساء إلى بيت دالي كمدعوين أيضاً لتقضية بضعة أيام من الصيف على شاطئ البحر. ولم يعجب البيت غالا، ولم ترتح لدالي في البداية؛ بل خافت منه. ولذلك قررت المغادرة صباح اليوم التالي تحاشياً لرؤية هذا الشخص المزعج الغريب الأطوار. ولو لم تكن متعبة من السفر لربما غادرت المنطقة ليلاً على الفور. ولكنها نامت بعمق بسبب إرهاق السفر والرحلة الطويلة. وفي صباح اليوم التالي عندما استيقظت ذهبت منذ الصباح الباكر لرؤية نور الله والبحر برفقة زوجها الشاعر الشهير وبقية الضيوف. أما سلفادور دالي فقد تأخر في الاستيقاظ، وبالأخص في لبس الثياب لأنه كان يريد أن يفاجئ الجميع بمظهر خارجي سريالي وثياب «إرهابية» مزركشة، تتجاوز حدود المعقول واللامعقول. ولكن قبل أن يغادر المنزل في آخر لحظة ألقى نظرة من الشرفة على جهة البحر لكي يرى ماذا حصل للضيوف، فوقع بصره فجأة على غالا، أو بالأحرى على ظهرها العاري تماماً. فوقع في حبها على الفور وبالضربة القاضية! من يستطيع تفسير شرارة الحب وكيف تحصل لأول مرة؟ وعندما التحق بهم أصبحت ضحكاته أقل. فالحب الصاعق يفرض نفسه وجبروته حتى على شخص مجنون، مستهتر، مثل سلفادور دالي. وعندما شعرت غالا بأنه أحبها وقعت هي أيضاً في حبه، وقررت على الفور الانفصال عن بول إيلوار على الرغم من أنها كانت زوجته ولها طفلة منه. فهي أيضاً كانت مجنونة على طريقتها الخاصة. أو قل إن الحب يُجنن بكل بساطة.
كيمياء الإبداع
على أي حال، هكذا ابتدأت إحدى قصص الحب الكبرى في القرن العشرين: حب سلفادور دالي وملهمته الروسية الحسناء غالا. وفي ذلك الوقت لم يكن أحد يعرفه تقريباً، ولم تكن شهرته قد انطلقت وطبقت الآفاق. كان لا يزال رساماً مجهولاً تماماً. صحيح أن نار العبقرية كانت تضطرم في داخله، ولكنها لم تكن قد تفتحت بعد. فجاء هذا الحب الصاعق في الوقت المناسب لكي يفجر كل طاقاته الإبداعية الخلاقة. وراح يرسم من الصباح وحتى المساء. واخترع عندئذ منهجيته المشهورة باسم: «المنهجية الجنونية- الهذيانية- النقدية». انتبهوا إلى هذا المصطلح: إنه من أعظم المصطلحات الفكرية على مدار التاريخ. إنه مصطلح تحريري بالمعنى الحرفي الهائل للكلمة. فلا يمكن أن تبدع إن لم تكن فيك حبة جنون أو حتى حبات! لا يمكن أن تبدع إلا بعد أن تقذف بنفسك في فم التنين أو غياهب المجهول. ألم يقل فرويد هذه العبارة البليغة: «أنا لست عالماً ولا فيلسوفاً ولا مثقفاً: أنا فاتح مقتحم ليس إلا». بهذا المعنى، على هذا النحو، أطلق سلفادور دالي لجنونه العنان، فنتجت لوحات فنية خالدة. وهي لوحات لا تزال تسحرنا، وأكاد أقول تدوخنا، حتى اللحظة.
وهكذا خرج دالي من مرحلة الفقر المدقع الذي كان يخجل منه لكي يلتحق بمرتبة الأغنياء الكبار. ويقال بأنه عندما كان يمشي في صالونات الأرستقراطية الفرنسية بباريس سابقاً، كان يتعثر بقدمه في السجادات، ويكاد يسقط على الأرض خجلاً من فقره وعاره. ولكن الآن تغير كل شيء، وأصبحوا يتراكضون عليه ويطلبون رضاه. أصبحت كل أمنياتهم أن يتصوروا معه أو أن يحظوا بتوقيعه. وكل ذلك بفضل غالا التي أحبته وأعطته الثقة بنفسه، وشجعته على طول الخط. وقد اعترف بذلك لاحقاً وقال بأنها هي السبب في تفتح عبقريته، ولولاها لما أصبح شيئاً يذكر. ألم نقل لكم بأن الحب يصنع المعجزات؟
وهكذا انتقل دالي وزوجته غالا من حياة الأكواخ الحقيرة إلى حياة القصور الباريسية، بعد أن أصبحت لوحات زوجها تباع بعشرات أو مئات الملايين من الدولارات. بل وأصبحت بلا سعر: أي فوق كل سعر ممكن. أصبحت ملكاً للمتاحف الفرنسية والأجنبية الكبرى. ولكن للأسف الشديد فإن نهاية هذا الحب لم تكن على مستوى بدايته. صحيح أن كل حب يضمحل شيئاً فشيئاً بمرور الزمن والعادة والألفة والعيش المشترك. صحيح أن الحب يذبل كما تذبل الورود الجميلة إذا ما تحقق ونجح. وحده الحب الخائب يبقى قوياً مشتعلاً. بهذا المعنى فالحب الفاشل هو أكبر حب ناجح في التاريخ! عدنا إلى مجنون ليلى، أو إلى ذي الرمة:
وحبها لي سواد الليل متقداً
كأنها النار تخبو ثم تلتهب
زفايغ... انتحار جماعي
ننتقل الآن إلى قصة حب أخرى، ولكنها انتهت بالانتحار الجماعي إذا جاز التعبير. نريد التحدث هنا عن حب الكاتب النمساوي الشهير ستيفان زفايغ لزوجته شارلوت زفايغ. لقد أحبها إلى درجة أنه أقنعها بالانتحار معه! هل هناك حب أكبر من هذا؟ ومعلوم أنهما انتحرا معاً في البرازيل عام 1942، وفي عز الحرب العالمية الثانية.
كان ستيفان زفايغ من أشهر كتاب أوروبا في فترة ما بين الحربين العالميتين. وكان من أسرة غنية جداً، ويعيش حياة مرفهة إلى أقصى الحدود. وبالتالي فقد أتاح له هذا الغنى أن يتفرغ للكتابة ويؤلف سير العظماء من أمثال بلزاك، وديستويفسكي، وتولستوي، ونيتشه، وفرويد، وريلكه... إلخ. وأعترف بأني قرأت مؤلفاته الشيقة بنهم واستمتعت بها جداً؛ لأنه كاتب سيرة من الطراز الأول. باختصار كان الرجل قد جمع المجد من طرفيه أو حتى من جميع أطرافه، ومع ذلك فقد قرر الانتحار. فلماذا إذن؟
من المعلوم أن توماس مان عندما سمع بخبر انتحاره لم يصدق في البداية. ولكن عندما تأكد من النبأ لم يزعل عليه بقدر ما غضب منه وتنرفز نرفزة هائلة. قال للمقربين منه: كيف ينتحر وهو الغني المترف؟ نحن الكتاب الذين نعيش على حافة الفقر والجوع بسبب الحرب يمكن أن ننتحر؛ بل ويعذرنا التاريخ تماماً إذا ما انتحرنا، أما هو؟!
في الواقع لا يمكن تفسير هذا الانتحار المفاجئ الذي هز المثقفين الألمان، إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار عدة عوامل: أولها أن ستيفان زفايغ كان متفائلاً بالحضارة الأوروبية المتطورة جداً آنذاك. كان يثق بها إلى أقصى الحدود. ولكن صعود هتلر في أرقى بلدان العالم صدمه صدمة كبيرة لم يستطع أن يقوم منها. راح يتساءل: كيف يمكن لبلد أنجب كانط وهيغل وغوته وباخ وموزار وعشرات العباقرة الآخرين أن يفرخ النازية؟ عندئذ أظلمت الدنيا في عينيه.
وثانياً كان يعتقد أن هتلر سوف ينتصر في الحرب لا محالة، وبالتالي فلا أمل في المستقبل. الوضع مسدود. ولكنه لو انتظر سنة واحدة أو حتى بضعة أشهر فقط؛ حيث لاحت هزيمة هتلر في الأفق لما انتحر. ولكن هناك تفسير آخر، وهو أن زفايغ كان مصاباً بمرض نفسي عميق لا علاج له. وهو الذي دفعه في لحظة يأس وسوداوية قاتلة إلى اتخاذ قراره بالانتحار. ولكن لماذا فرض هذا القرار على زوجته الشابة التي لم تكن قد تجاوزت الرابعة والثلاثين من العمر؟ لماذا لم ينتحر وحده يا ترى؟ في الواقع لا أحد يعرف سر هذا القرار المفاجئ والمذهل الذي اتخذه ستيفان زفايغ يوم 22 فبراير (شباط) من عام 1942.
كل ما نعرفه هو أن بعض الكتاب الكبار يصابون أحياناً بأزمات نفسية حادة قد تدفعهم إلى ارتكاب ما لا تحمد عقباه. لماذا انتحر أرنست همنغواي بعد أن نال جائزة «نوبل» والشهرة والمجد، ولم يكن قد تجاوز الستين إلا قليلاً؟ ولماذا جُن نيتشه وهو في عز الشباب (45 سنة)؟ وماذا عن جيرار دونيرفال الذي شنق نفسه على عمود كهرباء في ساحة الشاتليه وسط باريس؟ وماذا؟ وماذا؟
قد يهمك ايضا
"لزوم ما لا يلزم" يضمّ أدوات حرفية وصناعات قديمة و200 قطعة فنية
يضمّان منازل تُشبه القبو إلى جانب أدوات مِن الفخار
أرسل تعليقك