منذ غلاف رواية "ذهب الرّقيم" يحبسنا مؤلفها الدكتور عبد العزيز اللبدي في حيز المساحات التّاريخيّة عندما يسجّل على الغلاف أنّها رواية تاريخيّة، وبذلك يعلن بصراحة أنّنا أمام أداة سرديّة هدفها الأوّل والأخير هو التّاريخ، فهو مبتغاه الأعلى وفق حقائقه المثبتة في إزاء دحض الأكاذيب، وبذلك يمنعنا من تفلتات المخيال، ويربطنا قهراً بسلطته السّرديّة بوصفه الرّاوي العليم في مساحات تاريخيّة شاسعة، ولنا عندها أن نقوم بإسقاطاتنا من منطلق هذا التّاريخ الذي يخلّصه مّما علق به من أكاذيب وافتراءات صهيونيّة، إلاّ أنّه لا يطيق صمتاً فيصرّح لنا علانيّة في نهاية روايته عن بغيته قائلاً: "لقد حاولت أن لا أتأثّر بالنّظرة والتّفسير التّاريخي للعلماء الأوروبيين، والذي اعتمد على التّفسير التّوراتيّ وموائمة تاريخ المنطقة العربيّة مع التّاريخ التّوراتيّ الذي لا يستند لحقائق تاريخيّة، بل أساطير دينيّة، يحاول من خلالها تكييف المنطقة لتلائم اليهود". (2)
وهو من يستعير في بداية الرّواية جملة محمود درويش القائلة " آن أن نصحّح تاريخنا كي نضاهي الحضارات قولاً وفعلاً"(3)، وقلقه إزاء تصحيح هذا التّاريخ يجعله لا يلهث وراء الشّكل الحداثيّ للرواية، بل يرتدّ بها إلى ما قبل الحداثة حيث الشّكل الكلاسيكيّ الرّتيب، ليجعل منها متناً ضمن متون تاريخيّة أو بحث زمنيّ تراكميّ، ولذلك يمهرها بمقدّمة تاريخيّة حول علاقته كراوٍ بتاريخيّة السّرد الذي يصنعه في الرّواية في قصّة بطل الرواية "كرمل"، ويستعرض جهوده البحثيّة في بناء أرضيتها التأصيليّة والتّوثيقيّة، وينهي الرّواية بملحق تاريخي عقده تحت عنوان "عن الأنباط "(4) في نحو ستٍ
وعشرين صفحة كي يزجّ فيه بأرثه التّاريخيّ الذي يخشى أن يتفلّت من وعي الملتقّي وهو يقرأ عمله هذا أو يغيب عنه أو يكون جاهلاً به بشكل أو بآخر، وعلى الرّغم من أنّ هذا السّلوك التوثيقي قد يُعدّ تشويهاً للبعد السّرديّ الرّوائيّ بوصفه نسقاً كاملاً لا يجوز أن يفسّر في وجود جسد سرديّ آخر خارج عنه، وهو بذلك يهزم النّص في معركة التّجريب وسعار ابتكار الأشكال السّرديّة الجديدة القادرة على كسب رهان الإيهام والتخييل والإدهاش ولفت الانتباه والاهتمام، إلاّ أنّه يُفسّر ويُسوّغ ضمن هدف الرّوائيّ من هذا العمل الذي يحرص على تاريخيته أكثر من حرصه على فنيّات السّرد ومستجدّاتها وفنونها وأفانينها وانزياحاتها ومحمّلاتها وإمكاناتها، إلى جانب أنّه سلوك تفسيريّ وتوضيحي لجأ إليه الكثير من كتاب الرّوايات التاريخية إن جاز التّعبير، أو الذين يرهنون أعمالهم السّرديّة لصالح التّاريخ.
ومن هنا يغدو هذا العمل الرّوائيّ الضخم هو سجل تاريخيّ جديد للجغرافيا التي تؤرّخ لها الرّواية، وهي منطقة الرّقيم، وذلك في غائيّة واضحة ومعلنة، وهي انتصار التّاريخ والجغرافيا للنضال العربيّ الفلسطينيّ في إزاء أكاذيب الصّهيونيّة وافتراءاتها، إذن هذا العمل هو انتصار تارجغرافيّ(تاريخيّ جغرافيّ) للإنسان العربيّ على عدوه الصّهيونيّ الذي يُعمل عدوانه وخبثه في سبيل تزييف التّاريخ وتشويه نضال الإنسان العربيّ، وتقزيم قضيته.ومن هنا تغدو هذه الرّواية وثيقة جماليّة سرديّة في لعبة من تداخل النّصوص السّرديّة والبصريّة والسّمعيّة والحركيّة في سبيل تقديم رؤية الرّوائيّ بطريقته
الخاصّة، والرّوائي في هذه الرّواية انتصر للتّاريخ، وانتصر به، وقدّم ذلك عبر وثيقة زمنيّة تدور أحداثها في ضوء استحضار لكامل تاريخ المنطقة عبر قرون عديدة تمتدّ إلى ما قبل التّاريخ، بوعي كامل بأنّ الرواية التّاريخيّة تقوم بإعادة بناءات السّرديّات عبر منظور تاريخيّ خاصّ يستدعي الماضي ليفسّر الحاضر، ويغادر الحاضر ليفكّك الماضي، ولكن لماذا كلّ لك؟ إنّه لهدف سامٍ وملح وحاضر في ذهن كلّ من المبدع والمتلقي والنّاقد في آن، وهو تفكيك معاني الإسقاطات، وتفسير الحاضر بوعي من منطلقات الماضي، وتشكيل الرّؤية للحقّ وأدواته وغاياته وكيفيّة تحصيله عبر تفنيد الحوادث، وتحليل الحقائق، وردّ الشّبه، وتهشيم الأكاذيب.
لا يستطيع من يقرأ هذا العمل الرّوائيّ إلاّ أن يتساءل عن حياة مؤلفه وفكره ونضاله، والإجابة عن هذه الأسئلة ستكون مفسّرة لسبب ولادة العمل، وإلحاحه في اتكائه على التّاريخ الذي هو لغز الصّراع ومغزاه في قضية العدالة والعرب والمسلمين، أعني طبعاً القضية الفلسطينيّة.
والرّواية التّاريخيّة هي في خلاصة الأمر عمل فنّي له آليته الخاصّة، فما كانت البدايات التّاريخيّة للسّرد التّاريخي مثل سير الأبطال وأيام العرب والحكايات الشّعبيّة ضرباً من التّسلية وحسب، بل هي آلة من آلات التّربية والتحفيز والتّذكير وإلهاب المشاعر والضّمائر وإلهام الهمم، ثم استوت الرّواية التّاريخيّة في القرن الماضي لتغدو هي حياة جديدة للعبة الحكي والسّرد والحوادث، وذريعة للإسقاطات، وتفسيراً ذاتيّاً للحاضر والمستقبل فضلاً عن
الماضي في ظلّ حقائق تاريخيّة جمعيّة يتشاركها الرّوائيّ مع المتلقّي ليقرّر كلّ منهما بطريقته الإبداعيّة الخاصّة ماذا يريد الروائيّ أن يقول؟ وماذا يفهم الملتقّي منه، والدكتور عبد العزيز اللبدي في هذه الرّواية لا يرهقنا في فكّ إسقاطاته، بل هو يصرّح بها قبل الدخول في المتن الرّوائيّ، أيّ منذ المقدّمة التي جعلها في بداية الجسم الورقيّ لمتنه الروائيّ، إنه يتخذ دور الملقّن والمصحّح التّاريخيّ، ويجعل من نفسه سادناً على الزّمن الذي لا يسمح بأن يُشوّه أو يُسمّم أيّاً كانت المؤامرات والخطط الشّيطانيّة ضدّه.
إنّنا أمام جهد تاريخيّ عملاق لا يخفى على خافٍ، ويشي بشخصيّة الرّوائيّ المغرق في الجدل الفكريّ والمتوافر على ثقافة لا يُستهان بها، وهو سرد تاريخيّ يمتدّ من زمن الحارث الأوّل إلى زمن الحارث الثّاني حيث يولد "كرمل" بطل الرّواية، أيّ أنّ هذه الرّواية تمتدّ عبر جيلين، ولكنّها فعليّاً تضيء أحداثاً تاريخيّة عبر قرون عديدة، وهذا العمل هو تاريخ يتخفّى في رواية لما للرواية من تأثير وسحر ومريدون وجمهور نقديّ وبحثيّ لا يُستهان به،
ولذلك لا نخالف الحقيقة إن قلنا إنّ هذه الرّواية هي تاريخ احتوى على سرد قصصيّ، أكثر من أنّها رواية فيها متون تاريخيّة؛فالرّوائي الذي أوهمنا كثيراً بأنّنا أمام عمل روائيّ خالص يتكئ على التّاريخ، إلاّ أنّه في كثير من مواطن الرّواية، يغدو تاريخاً صرفاً لا علاقة سرديّة حقيقيّة للرّواية به، إنّه يتحوّل في كثير من الصّفحات إلى تاريخ صرف لا علاقة له بالرّواية، ولو قمنا بقطع تلك الصفحات من الرّواية لما أثّرت على مجراها أو تماسكها أبداً، هذا طبعاً في غالب الأحوال.وهو في هذه الحالة لا يستطيع إلاّ أن يُقدّم نفسه إلاّ على اعتبار أنّه نص سرديّ لا غير، ولا علاقة له بالرّواية، حتى وإن حاول الرّوائي أن يحيل التّاريخ إلى متون وهوامش مرفقة ومرفوعة إلى مصادرها وقائليها، إلاّ أنّ النّص يظلّ تاريخاً صرفاً لا يبذل أيّ جهد لإثبات وجوده في دفع السّرد في الرّواية، بل هو حقيقة الأمر يعطّله في كثير من المواضع.
ولكن في مواضع الأخرى ينساح التّاريخ بشكل ذكي في الرّواية، ويغدو جزءاً منها عندما ينجح الرّوائيّ في نسجه في متون الرّواية ومرجعياتها وسردياتها لا سيما عندما يتحدّث عن القبائل والصحراء وأهلها وتاريخها وكلّ ما ينتمي إليها من حيوان وطبيعة وحيوات وصناعات وتجارات ومهارات وحرف وحكايا وأساطير، ثم ينتقل إلى الحديث عن الكثير من بؤر الحضارات ومدن التقدّم في حضاراتنا البائدة، إلى جانب استحضار تفاصيل الحياة فيها وسلوكياتها المعاش فيها، وطبائع حيواناتها ومرجعياتها المثيولوجيّة بما يخصّ موروثها من الآلهات والمعبودات
والإغراق في التاريخيّة قاد اللبدي وجوباً إلى الدّخول في فضاءات الجغرافية التي يصحّ أن ندرجها تحت مساحات المكان السّرديّ، أو الفضاء السّردي، أو الحيّز السّرديّ، أو المكان السّردي، أو أي مصطلح يشير إلى عنصر المكان في الرّواية، مهما تعدّدت التسميات وتباينت المصطلحات، وعلا جدل النّقاد في تصنيفها وتبويبها، إلاّ أنّها تتفق جميعاً على أنّها مصطلح يشير إلى الحيز المكانيّ الذي يحتضن عناصر الزّمن والحدث والشّخوص والصّراع مهما تعقّد تشكيل التّداخل بها أو سهل.فهذه ليست هي القضيّة.
والمكان في هذه الرّواية هو الرّقيم في الإعلان الظاهريّ السّطحي، ولكنّه فعليّاً مكان قابل للإسقاط على كلّ مكان عربيّ، وهو في الوقت ذاته مكان ينساح في تاريخيّته، ويأخذ حدوده الجغرافيّة من المحمول التّاريخيّ الذي يستحضره الرّوائيّ، وبذلك تتمدّد تخوم هذا المكان لتغدو أماكن مركّبة بفعل تراكم الحدث التّاريخيّ فيها، فالمكان الواحد هو عدد غير متناهٍ من الأماكن بفعل احتضانه للتّاريخ العابر فيه، ومن هنا تبرز قدسيته وأصالته، فهو مكان يحمل تاريخ النّضال، والانتصار على الأعداء، ودحرهم المرة تلو الأخرى، ولعلّ هذه الخاصيّة بالتّحديد هي من ينهض عليها المحرّك الدّاخلي في الرّواية كي تستحضر الجغرافيا التّاريخ، وتعيد دفع عجلة التّاريخ ليعيد نفسه، فيطرد العرب أعداءهم الطّامعين في أوطانهم مهما استطال الشّر، وعظمت قوته.
المكان في هذه الرّواية يتبأر في الرقيم، ولكنّه يمتد عبر جغرافيا عملاقة تغطي حضارات المنطقة وممالكها ومدنياتها، ثم تنتظم جميعها في عقد الأصالة والعروبة مقابل الوجوه الغريبة التي تأتي إلى المنطقة طامعة، ثم تُدحر على أيدي أبناء أبنائها الأشاوس، وذلك عبر استعراض طويل النّفس لتّاريخ هذه الجغرافيا بما اشتمل عليه من حضارات وشعوب وقبائل وأمم وممالك وساسة، وأبطال الرّواية وشخوصها يُدشنون إلى هذه الجغرافيا ويعيشون تفاصيل تاريخها ويتأثرون بها، وينحتون حيواتهم من حيوات هذه الحضارات، وجميعهم يؤكدون حقيقة واحدة ناصعة بلجاء، وهي أنّ هذه الأوطان هي أوطاننا نحن العرب، ولا مكان فيها للغرباء الغازين، ولا لأيّ أكاذيب مقحمة على التّاريخ مثل أكاذيب الصّهاينة بأحقيتهم بفلسطين.
هذه الرّواية تقول ظاهراً بنفس ممتد عبر نحو مئتين وثمانين صفحة هذا هو الرّقيم، وهذا تاريخ الأنباط العظماء، هذا هو الرّقيم حيث الحضارة وازدحام الأمم، وصنع أبجدية الكتابة العربيّة، وأسرار الذّهب، وتكدّس البشر فيه حيث امتزاج الحضارات والثقافات والأعراق، ولكنّ هذا الظّاهر هو ما يبطّن المقصد الدّاخليّ السّامي الذي يقصده من هذه الرّواية، وهي أنّ هذه أوطاننا وحضاراتنا وتاريخنا، فمن أنتم أيّها الغرباء؟ الروائي عبد العزيز اللبدي يسأل هذا السّؤال للغرباء عبر رواية عملاقة تقول بأسانيد تاريخيّة ثابتة: هذه أوطاننا نحن العرب، ولا مكان فيها للغرباء. ونحن نقول ما قاله د.عبد العزيز اللبدي في روايته هذا، ونتساءل معه التّساؤل ذاته: من أنتم أيّها الغرباء؟ هذه هي أوطاننا.
خلاصة القول إنّ الروائي عبد العزيز اللبدي قد قال كلمته صادقة صريحة، وسجّلها بشرف في سِفْر إبداعه، فطوبى له.
الإحالات:
1- الدكتور عبد العزيز طاهر اللبدي، روائي أردني من أصول فلسطينيّة من اليامون، وهو طبيب جراحة، درس الطّب في بون/ألمانيا، وتخرّج منها عام 1974، تخصّص في الجراحة العامة، ثم حصل على شهادة الدكتوراة في الطبّ من أكاديميّة الدّراسات العلية من برلين عام 1984، مؤسس أكبر موقع طبيّ عربيّ، كان من كوادر العمل السياسيّ في حركة فتح الفلسطينيّة، وعمل في الهلال الفلسطينيّ منذ تخرّجه حيث عاش مأساة مجازر مخيم تل الزّعتر عام 1976، وعاش فصول صموده وكبريائه، وأُنتخب عضواً في المكتب التّنفيذي عام 1978 إلى عام 1994، حاز على جائزة الطّب العربيّة من اتّحاد الأطباء العرب والرّئيس الجزائريّ، عمل في جامعة القدس في فلسطين المحتلة. من مؤلفاته: أوراق تلّ الزعتر، الهلال الأحمر الفلسطيني، الأوضاع الصّحيّة والاجتماعيّة في فلسطين من 1982- 1986، تاريخ الجراحة عند العرب، القاموس الطّبي العربيّ، وردة كنعان.
2- عبدالعزيز طاهر اللبدي: ذهب الرّقيم، ط1، دار الشروق، الأردن، عمان، 2014، ص268
3- نفسه: ص11
4- نفسه، ص ص 252-280
أرسل تعليقك